بعد عامين من النزوح والمعاناة.. الحياة تعود لأطفال غزة بخطوات صغيرة

بعد عامين من النزوح والمعاناة.. الحياة تعود لأطفال غزة بخطوات صغيرة
طفل فلسطيني يتلقى العلاج التأهيلي

في أحد أزقة قطاع غزة المهدّمة، كان الطفل محمد المصري يحاول حمل وعاء ماء أثقل من جسده النحيل، فعلها مرارًا من قبل، فالماء هنا نادر كالسلام، لكن هذه المرة سقط محمد أرضًا ولم يستطع أن ينهض، هرع والده إليه مذعورًا، حمله إلى المستشفى، وهناك كانت المفاجأة، حيث أصيب محمد بما يُعرف بمتلازمة غيلان باريه، وهو اضطراب نادر يهاجم فيه الجهاز المناعي أعصاب الجسد، فيحوّل الحركة إلى حلم بعيد المنال.

وتقول الدكتورة فايزة برقان، أخصائية العلاج الطبيعي في مستشفى الأمل التابع للهلال الأحمر الفلسطيني بخان يونس، إن حالات الإصابة بهذه المتلازمة المعروفة اختصارًا باسم "جي بي إس"، انتشرت بصورة مقلقة بين أطفال غزة منذ اندلاع الحرب الأخيرة وفق موقع أخبار الأمم المتحدة.

وتوضح أن "سوء التغذية، وانعدام المياه النظيفة، وتدهور الصرف الصحي، كلها عوامل جعلت من قطاع غزة بيئة خصبة للأمراض التي تهاجم جهاز المناعة وتؤدي إلى مثل هذه الحالات العصبية الخطيرة".

شلل ومعاناة.. وأمل

عندما استقبل الأطباء الطفل محمد، كان جسده ساكنًا كأنه فقد صلته بالعالم، لم يكن يستطيع الجلوس أو الوقوف أو حتى تحريك أطرافه.

لكن رحلة الأمل بدأت من هنا، فبفضل جلسات العلاج الطبيعي والوظيفي المتواصلة، وبجهود فريق التأهيل في المستشفى، استطاع محمد بعد أسابيع من العمل الشاق أن يخطو خطواته الأولى من جديد.

تقول الدكتورة فايزة بفخر وابتسامة تعبّر عن كل الجهد: "اليوم يستطيع محمد المشي والقيام بأنشطته اليومية وحده، لقد استعاد استقلاله وحياته شيئًا فشيئًا، وهذا هو الهدف الأكبر لكل علاج نقدمه".

أكرم.. ضحية الرصاصة

في الغرفة المجاورة، يجلس الطفل أكرم على مقعد متحرّك يدفعه بيديه الصغيرتين جيئة وذهابًا، يضحك ويقترب من الكاميرا، كأنه يريد أن يقول: ما زلت هنا.

تحكي والدته، سلوى مهند، كيف أصيب أكرم برصاصة طائشة في حين كان نائمًا في بيته، تقول بصوت تختلط فيه الذكريات بالدموع: "لم نكتشف إصابته فورًا، وعندما حاولت مساعدته على الوقوف لم يستطع، كان جسده ثقيلاً وباردًا".

نقله الأطباء لاحقًا إلى مستشفى الأمل، حيث اكتُشفت إصابته في الحبل الشوكي، بدأ فريق التأهيل رحلة طويلة معه شملت العلاج الطبيعي والنفسي والنطقي، وشيئًا فشيئًا بدأت التحسنات تظهر.

تقول الدكتورة فايزة: "عندما وصل إلينا كان طريح الفراش لا يتحرك، أما الآن فقد أصبح قادراً على الجلوس والوقوف والمشي بمساعدة المشاية، ونأمل أن يتمكن من الحركة الكاملة قريبًا".

وفي كل زاوية من مستشفى الأمل، قصص كثيرة تشبه قصتي محمد وأكرم، تختلف التفاصيل، لكن الألم واحد والإصرار واحد.

تقول الدكتورة فايزة إن المستشفى يواجه تحديات كبيرة بسبب الحرب، من نقص الأجهزة المساعدة إلى تعطل معظم الأسرّة الإلكترونية، لكن العاملين لا يتوقفون عن المحاولة؛ لأن "كل خطوة يخطوها مريض بعد العجز هي انتصار صغير على الحرب".

جرح غزة المفتوح

تشير تقارير منظمة الصحة العالمية إلى أن أكثر من 42 ألف شخص في قطاع غزة أصيبوا إصابات غيّرت مجرى حياتهم بسبب الحرب، ربعهم من الأطفال.

وخلال زيارته لمستشفى الأمل، قال ممثل المنظمة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، الدكتور ريك بيبركورن، إن نحو 169 ألف مصاب في القطاع بحاجة إلى إعادة تأهيل، منهم أكثر من عشرة آلاف طفل يحتاجون إلى معدات وأجهزة مساعدة مدى الحياة.

وأكد أن منظمة الصحة العالمية تعمل مع الهلال الأحمر الفلسطيني لتوسيع خدمات التأهيل الطبي، عبر مستشفيات ميدانية ومراكز ثابتة، ضمن خطط التعافي وإعادة الإعمار القادمة.

تعيش غزة منذ سنوات طويلة تحت وطأة الحصار والحروب المتكررة التي دمرت البنى التحتية وأرهقت النظام الصحي الهش، وتعاني المستشفيات من نقص حاد في الأدوية والمعدات والطواقم، في حين يواجه الأطفال، في غزة على وجه الخصوص، آثارًا جسدية ونفسية عميقة نتيجة العنف المستمر وسوء الأوضاع المعيشية.

وتحذر المنظمات الدولية من أن تفاقم الأوضاع الصحية والبيئية في قطاع غزة يزيد من احتمالات انتشار الأمراض المزمنة والنادرة، ويهدد مستقبل جيل كامل يكبر وسط الألم والحرمان.

لكن رغم كل ذلك، تظل قصص مثل محمد وأكرم دليلاً على أن الأمل لا يُقصف، وأن في غزة دائمًا من يعيد بناء الحياة من تحت الركام، خطوة بخطوة، وابتسامة بابتسامة.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية