"جميلة ذيبان".. أم من ريف دمشق تروي مأساة فقدان أبنائها واحداً تلو الآخر
"جميلة ذيبان".. أم من ريف دمشق تروي مأساة فقدان أبنائها واحداً تلو الآخر
في منزل قديم في ريف دمشق، تجلس الحاجة جميلة محمد ذيبان بهدوء يشبه السكون الذي يسبق الانهيار، ملامحها المحفورة بالتجربة لا تروي حكاية امرأة واحدة بقدر ما تختصر فصولاً من وجع سوري طويل.
وجع تشكل بين قبضة استبداد داخلي وعدوان خارجي لم يترك للعائلات سوى الخسارة والانتظار، وفي هذا البيت المتعب، تتقاطع سيرة أم مع تاريخ بلد، وتتحول الذاكرة إلى سجل مفتوح للفقد.
لم تكن جميلة تتخيل أن أبناءها الأربعة سيغيبون عنها بطرق مختلفة، وأن تكون شاهدة على كل هذا الألم دون أن تملك سوى الصبر، فاثنان من أبنائها قد اغتالتهما آلة القمع في عهد نظام الرئيس السابق بشار الأسد بسوريا، وثالث اختفى خلف أسوار السجون الإسرائيلية، في حين رحل الرابع مريضاً ومقهوراً بعد أن أثقلته الخسائر المتتالية، بحسب وكالة أنباء الأناضول.
محمود الغياب الأول
كان محمود الابن البكر وبداية الحكاية. في عام 2014، لم يكن قد تجاوز 17 عاماً عندما اعتقله نظام الأسد من دون مذكرة أو تهمة واضحة، ومنذ تلك اللحظة انقطعت أخباره وتحول إلى رقم في قائمة طويلة من المختفين قسرياً، ولم تتلقَّ العائلة أي معلومة عن مكان احتجازه أو مصيره، ولم يسمح لها حتى بأمل الزيارة أو السؤال.
عندما نجحت الثورة السورية في إسقاط نظام الأسد قبل عام، ظنت جميلة أن باب الحقيقة قد يفتح أخيراً، لافتة أنها كانت من بين آلاف الأمهات اللواتي قصدن السجون ومراكز الاحتجاز بحثاً عن أثر لأبنائهن، وتفحصت وجوه الناجين واحداً واحداً علها ترى ملامح محمود بينهم، لكن الانتظار طال دون جدوى، لم يعد حلمها أن تضمه إلى صدرها، بل أن تعثر على قبر يحمل اسمه لتبكيه كما يليق بأم.
الفصل الثاني من المأساة حمل اسم صديف، اختار هذا الابن أن يواجه نظام الأسد بالسلاح، فانشق عن جيش التحرير الفلسطيني الذي كان يتبع إدارياً الجيش السوري، وانضم إلى صفوف الجيش السوري الحر، وقاتل حتى آخر أيامه، إلى أن قتل في إحدى المعارك في 6 يونيو 2016، وكان عمره 23 عاماً، ورحيله لم يكن فقط فقدان ابن، بل انكسار جديد في قلب أم لم تلتقط أنفاسها بعد.
لم تنتهِ المحنة بسقوط نظام الأسد، فبعد سنوات من الاستبداد، جاء الدور على الانتهاكات الإسرائيلية لتضيف فصلاً جديداً من الألم، ففي 5 فبراير الماضي اعتقلت القوات الإسرائيلية الابن الثالث محمد محسن أحمد من قرية أم اللوقس في ريف القنيطرة الجنوبي، ولم يكن محمد منخرطاً في أي نشاط عسكري، بل كان يعمل في مهن حرة كسائر أبناء قريته.
تقول جميلة، وهي تحمل الجنسية الأردنية ومن أصول فلسطينية، إنها توجهت إلى مكتب الأمم المتحدة في العاصمة دمشق بحثاً عن أي معلومة، وهناك أبلغوها أن ابنها محتجز في سجن عوفر الإسرائيلي دون تقديم تفاصيل عن وضعه الصحي أو القانوني، ومنذ ذلك اليوم بات اسم السجن يتردد في البيت بصفته مرادفاً للغياب القسري والقلق اليومي.
أطفال ينتظرون أباً
ترك محمد خلفه ابنة وولدين، أطلق على أحدهما اسم عمه صديف في محاولة للاحتفاظ بالذاكرة حية، وتتولى الجدة رعاية الأطفال والإشراف على شؤونهم، في حين يعيشون على أمل أن يعود والدهم يوماً ما، وفي كل صباح، تسأل العيون الصغيرة عن موعد العودة، ولا تجد الجدة سوى الصمت والإجابات المؤجلة.
منيزل والرحيل الصامت
لم يحتمل الابن الرابع منيزل ثقل الفواجع، وكان يعاني نزيفاً في المعدة، لكن حالته الصحية تدهورت بشدة بعد اعتقال شقيقه محمد، فالألم النفسي فاق قدرة الجسد على الاحتمال، وانتهى به المطاف إلى الموت، ليغلق فصلاً آخر من فصول الخسارة في حياة هذه الأم.
لم تستطع جميلة إكمال الحديث عن تفاصيل الاعتقال، فتولت زوجة ابنها محمد، آمنة عواد، رواية ما جرى، تقول إن الجيش الإسرائيلي اقتحم المنزل 3 مرات بحجة البحث عن سلاح، خلال الاقتحامات تعرض أفراد الأسرة للإهانات اللفظية، وتم الاعتداء على محمد في المرة الثانية، قبل أن يتم اعتقاله في الاقتحام الثالث أمام أطفاله، وتؤكد الزوجة أنهم لم يعثروا على أي سلاح، ورغم ذلك أصر الجنود على اعتقاله.
نزوح جديد نحو الألم
بعد الاعتقال، اضطرت آمنة إلى مغادرة القنيطرة مع أطفالها والتوجه إلى منزل الجدة في ريف دمشق، البيت القديم الذي ترك الزمن بصماته على جدرانه، بات مأوى لأسرة مثقلة بالخسارة، تتقاسم الحزن والانتظار في مساحة ضيقة لا تتسع لكل هذا الوجع.
تحاول جميلة أن تبدو متماسكة، تخفي دموعها ما استطاعت، وتعيش بين ذكريات الأبناء الذين رحلوا وانتظار الابن الذي لا يزال خلف أبواب مغلقة، وهي لا تتحدث كثيراً، لكن صمتها يقول ما تعجز الكلمات عن وصفه، فهي أم لم تطلب من الحياة سوى أن ترى أبناءها آمنين، فإذا بها تدفع أثمان صراعات لم تخترها.
تعكس قصة جميلة محمد ذيبان جانباً من المعاناة المركبة التي عاشها السوريون خلال أكثر من عقد من الصراع، فسياسات الاعتقال والإخفاء القسري التي اتبعها نظام بشار الأسد أدت إلى اختفاء عشرات الآلاف من السوريين، ولا تزال آلاف العائلات تجهل مصير أبنائها حتى اليوم، وبعد سنوات من الحرب الداخلية، وجد سكان مناطق جنوب سوريا أنفسهم أمام واقع جديد يتمثل في الاعتقالات والانتهاكات التي تنفذها القوات الإسرائيلي، خاصة في القنيطرة ومحيطها، وبين هذين الواقعين، تقف أمهات كثيرات مثل جميلة، يحملن ذاكرة الفقد ويعشن على أمل العدالة والعودة، في انتظار أن تفتح أبواب السجون يوماً، أو أن يغلق الحزن دائرته الأخيرة.











