من الوقاية للعلاج.. قراءة استراتيجية لمواجهة انتشار الأمراض المزمنة بالعالم العربي

من الوقاية للعلاج.. قراءة استراتيجية لمواجهة انتشار الأمراض المزمنة بالعالم العربي
عاملون في قطاع الرعاية الصحية- أرشيف

في أرجاء العالم العربي، حيث تتشابك التقاليد العريقة مع تحديات العصر الحديث، يستمر المرض في التسلل بصمت إلى الأجساد والمجتمعات، متشحًا بثوب الإهمال المتجدد، دون أن يُدرَك أو يُقَابل بالشكل المناسب.

أصبح المرض جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية، فمع غياب السياسات الصحية الفعّالة والموارد المحدودة، تجد الأمراض المزمنة طريقها إلى الجسد الجمعي للعرب، وتستمر في تفاقم الوضع الصحي، مُحَملة بأعباء اقتصادية واجتماعية ضخمة.

أمراض القلب والأوعية الدموية

تُعتبر أمراض القلب والأوعية الدموية من أبرز أسباب المعاناة الصحية في العالم العربي، حيث تصدرت قائمة الأمراض الأكثر شيوعًا والأعلى من حيث معدلات الوفاة، ووفقًا لدراسة أجراها مركز الأبحاث السعودي في عام 2022 تقدر التكلفة الاقتصادية لأمراض القلب في دول مجلس التعاون الخليجي وحدها بنحو 11 مليار دولار سنويًا. 

ومن المثير للقلق أن هذه الأرقام تتوسع لتشمل جميع دول المنطقة العربية، حيث تتراوح تقديرات تكلفة الأمراض المرتبطة بالقلب بين 15 و20 مليار دولار سنويًا، ففي عام 2021، سجّلت دول المنطقة أكثر من 12 مليون إصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية، مما يشير إلى أن هذه الأمراض لم تعد مجرد تحديات صحية، بل أصبحت عبئًا اقتصاديًا ضخمًا.

السبب الرئيس لهذا الانتشار يعود إلى نمط الحياة الذي يعتمد على الأطعمة الغنية بالدهون والسكر، وقلة النشاط البدني، وتشير الدراسات إلى أن نحو 45% من الشباب العربي يعانون من قلة النشاط البدني، ما يزيد من احتمالات الإصابة بالأمراض المزمنة مثل السكري وأمراض القلب. 

وتظهر الدراسات أن ما يقارب من 25% من البالغين في بعض الدول العربية يعانون من ارتفاع ضغط الدم، العديد منهم لا يعرفون حتى أنهم مصابون بهذا المرض المزمن.

السمنة.. وباء يفتك بالجميع

تتسارع معدلات السمنة في المنطقة العربية، حيث أصبح هذا المرض أكثر من مجرد مشكلة صحية فردية، بل أزمة مجتمعية تتطلب تدخلًا عاجلًا، في بعض دول الخليج، يتجاوز استهلاك السكر اليومي للفرد ضعف النسبة الموصى بها من قبل منظمة الصحة العالمية، ما يُسهم في تفشي السمنة والأمراض المصاحبة لها، مثل السكري من النوع الثاني.

وتشير التقارير إلى أن نحو 30% من الأطفال في دول الخليج يعانون من السمنة، ما يعكس فشلًا في استراتيجيات الوقاية والتعليم الصحي للأطفال، ويؤكد الحاجة الماسة إلى التوعية والتدخل المبكر.

ومما يزيد من تفاقم هذا الواقع هو غياب سياسات فعّالة للوقاية، حيث تظل المقاربات الوقائية غائبة في العديد من الدول العربية، فيما يتم التعامل مع المرض كحالة طارئة تتطلب علاجًا مكلفًا، ومن الضروري أن تُركز السياسات الصحية على الوقاية والتثقيف الغذائي، وذلك من خلال برامج توعية تهدف إلى تقليل استهلاك المنتجات السكرية وتعزيز نمط الحياة الصحي.

السكري.. الوباء الصامت

لا يقل مرض السكري عن أمراض القلب من حيث انتشاره وتداعياته الصحية والاقتصادية.. فالمنطقة العربية تتصدر العالم من حيث معدلات الإصابة بالسكري، حيث بلغت نسبة انتشار السكري في بعض البلدان العربية 16.2%، وهي الأعلى عالميًا، وبحسب الاتحاد الدولي للسكري، يُعاني أكثر من 100 مليون شخص في المنطقة العربية من مرض السكري أو من مرحلة ما قبل السكري، بمعدلات إصابة تتراوح بين 25-30% في دول مثل السعودية، ومصر، والكويت، والأكثر إيلامًا هو أن ما يقارب ثلث المصابين لا يعلمون بإصابتهم، مما يجعل من إدارة المرض تحديًا مضاعفًا.

ففي مصر، قدرت دراسة أجريت في عام 2021 أن تكلفة علاج السكري بلغت نحو 5 مليارات دولار سنويًا، ما يعادل نحو 4% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، ومع تفشي المرض بشكل غير مسبوق، أصبحت تكلفة العلاج عبئًا إضافيًا على الميزانيات الصحية العامة، في وقت يشهد فيه العالم العربي أزمات اقتصادية طاحنة.

الأمراض التنفسية 

في ظل تزايد الملوثات البيئية والتحولات الحضرية السريعة، شهدت المنطقة العربية ارتفاعًا ملحوظًا في معدلات الإصابة بالأمراض التنفسية المزمنة مثل الربو ومرض الانسداد الرئوي المزمن، وفي بعض الدول العربية، تصل نسب الإصابة بالربو إلى 12% من إجمالي السكان، بينما تتجاوز نسبة التدخين في بعض الدول 45% بين الرجال، مما يزيد من تفشي هذه الأمراض. 

تشير تقارير منظمة الصحة العالمية إلى أن نسبة التدخين في العالم العربي تتجاوز 25%، ما يسهم بشكل مباشر في انتشار أمراض الجهاز التنفسي.

في عام 2019، سُجلت أكثر من 128 ألف حالة وفاة مرتبطة بالأمراض التنفسية المزمنة في المنطقة العربية، وهو رقم يعكس التحدي الكبير الذي تواجهه الدول العربية في هذا المجال، ومع ذلك، لا تحظى هذه الأمراض بالاهتمام الكافي في الخطاب الصحي العام، على الرغم من أنها تقتل بصمت وتؤثر بشكل كبير على جودة حياة الأفراد.

الأمراض العصبية

تشير الدراسات الحديثة إلى زيادة ملحوظة في معدلات الإصابة بالأمراض العصبية في العالم العربي، مثل السكتة الدماغية، وألزهايمر، والصرع، ووفقًا لتقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية في 2021، فقد ارتفعت معدلات الإصابة بالسكتة الدماغية بنسبة 11% مقارنة بالعقد الماضي، السكتة الدماغية أصبحت ثاني أكثر أسباب الوفاة في بعض دول الخليج، كما لوحظ تصاعد ملحوظ في حالات الإصابة بألزهايمر، خاصة في ظل الضغوط النفسية الناتجة عن النزاعات والحروب المستمرة في بعض الدول.

ورغم أن هذه الأمراض ترتبط عادة بالتقدم في العمر، فإن العوامل البيئية والنفسية في المنطقة تساهم بشكل كبير في تسريع ظهورها، فالضغوط الناتجة عن النزاعات، والفقر، والبطالة، والعزلة الاجتماعية، تجعل من الصعب تقديم الرعاية الكافية للأفراد المصابين، ما يؤدي إلى تفاقم الوضع الصحي بشكل مقلق.

التفاوت في الوصول للرعاية الصحية

إن التفاوت الكبير في الوصول إلى الرعاية الصحية يُعدّ من أبرز التحديات التي تواجه العالم العربي. ففي الوقت الذي يحق فيه للمواطنين في العواصم الكبرى الحصول على خدمات طبية متقدمة؛ يعاني سكان المناطق الريفية أو المخيمات من نقص حاد في الخدمات الصحية، ففي اليمن، على سبيل المثال، دمرت الحرب أكثر من نصف المنشآت الصحية، ما جعل الأمراض المزمنة تنتشر بلا رادع، وفي قطاع غزة، يواجه آلاف المرضى، وخاصة المصابين بالسرطان والسكري، نقصًا حادًا في الأدوية والمعدات الطبية بسبب الحصار.

هذه الفجوة في الوصول إلى الرعاية الصحية لا تقتصر على البنية التحتية الصحية فقط، بل تشمل أيضًا التفاوت في توزيع الموارد الطبية، ففي بعض الدول مثل الإمارات، يتوفر 3.5 طبيب لكل 1000 شخص، بينما لا يتجاوز هذا الرقم 0.2 في بعض المناطق الفقيرة في اليمن.

الحق في الصحة

أزمة الصحة في العالم العربي ليست مجرد قضية صحية، بل هي أيضًا أزمة حقوق إنسان، ويعد الحق في الصحة حق أساسي من حقوق الإنسان، وهو شرط ضروري للكرامة الإنسانية.

كما أكدت منظمة الصحة العالمية في العديد من تقاريرها، ولكن هذا الحق يُنتهك يوميًا في العالم العربي، حيث يعاني نحو 60% من السكان في المنطقة من عدم التغطية الصحية الشاملة، خاصة في المناطق الريفية والنائية.

في بعض البلدان العربية، لا يتجاوز الإنفاق الحكومي على الصحة 5% من إجمالي الناتج المحلي، في حين أن التقارير الدولية تشير إلى ضرورة تخصيص 8-10% من الناتج المحلي لتلبية احتياجات الرعاية الصحية الأساسية.

ويزيد غياب التأمين الصحي، وندرة الأدوية الأساسية، وتفاوت مستويات الرعاية الصحية بين الطبقات الاجتماعية، من تعميق معاناة المواطنين، ويؤثر بشكل سلبي على حياتهم.

أفق الأمل والتغيير

رغم هذا الواقع المؤلم، فإن هناك أفقًا للتغيير.. لا تزال الوقاية جزءًا أساسيًا من الحل، ويمكن تبني استراتيجيات وقائية فعّالة من خلال التوعية والتعليم الصحي، والتشجيع على نمط حياة أكثر صحة، ووفقًا لتقارير منظمة الصحة العالمية، يمكن أن تؤدي التدخلات الوقائية إلى تقليل التكاليف الصحية بنسبة 30-50% على المدى الطويل، بل إن تعزيز الوعي الصحي في المدارس وأماكن العمل، وكذلك توجيه السياسات العامة نحو الوقاية بدلاً من العلاج، قد يكون هو السبيل للحد من هذا العبء الصحي الكبير.

إن المنطقة العربية بحاجة إلى إصلاحات جذرية في أنظمتها الصحية، من خلال إعادة ترتيب أولويات الإنفاق الحكومي، وتحسين توزيع الموارد الصحية، وضمان التغطية الصحية الشاملة لجميع المواطنين.

الصحة حق وليست رفاهية

في ظل التحولات العالمية التي يشهدها القطاع الصحي، يبرز الشرق الأوسط كنموذج حي يعكس التغيرات الجذرية في كيفية إدارة المنظومات الصحية، وفي تصريح خاص لـ"جسور بوست"، أشار الدكتور إسلام عنان، مستشار السياسات الصحية، إلى أن العالم اليوم يُعيد رسم خريطته الصحية مع التركيز على "مركزية الرؤية"، والتي تمر بتحولات مستمرة في أهدافها ومحاورها.

شرع الدكتور عنان في شرح كيفية تطور مفهوم السياسات الصحية، حيث كانت المنظومات الصحية تقليديًا تركز على "مركزية النظام"، أي البنية التحتية الطبية مثل المستشفيات والأطباء والأجهزة، لكن مع مرور الوقت، بدأ العالم بالتحول نحو "مركزية المريض"، وهو نموذج يضع المريض في قلب المعادلة الصحية، ويهدف إلى تقديم أفضل رعاية ممكنة له وتحقيق أعلى معدلات شفاء تتماشى مع المعايير العالمية.

ثم جاء التطور الأكبر مع الانتقال إلى "مركزية المواطن"، وهي رؤية صحية تضع صحة الإنسان قبل أن يمرض في صدارة أولويات السياسات الصحية، حيث تركز على الوقاية والتوعية والتدخل المبكر.

الأمراض المزمنة

أشار الدكتور عنان إلى تحول كبير في خريطة الأمراض في الشرق الأوسط، حيث أصبحت الأمراض المزمنة غير السارية مثل أمراض القلب والسكري تشكل السبب الرئيسي للوفاة في المنطقة، فيما لا تزال بعض المناطق مثل اليمن وغزة تشهد تهديدات من الأمراض السارية مثل الكوليرا والتهاب الكبد الوبائي.

وأكد عنان أن معدلات السمنة وزيادة الوزن في المنطقة وصلت إلى مستويات خطيرة، مع دول مثل السعودية والكويت والإمارات في مقدمة الدول ذات النسب العالية، بينما تعد المنطقة من الأعلى عالميًا في معدلات الإصابة بالسكري، حيث تتصدر مصر والسعودية قائمة الدول المتأثرة.

أما أمراض القلب فهي السبب الثاني للوفيات في الشرق الأوسط بعد حوادث الطرق، بينما السرطان يمثل تهديدًا خطيرًا أيضًا، خاصة في ظل التشخيص المتأخر الذي يصل في بعض الدول إلى 40%.

الوقاية والتوعية

أكد الدكتور عنان أن الوقاية والتوعية الصحية تمثلان حجر الأساس في أي سياسة صحية فعالة، مشيرًا إلى أن كل دولار يُنفق على الوقاية يوفر 15 دولارًا في العلاج، كما أثنى على المبادرات الصحية التي أُطلقت في بعض دول المنطقة، مثل مبادرة "مليون صحة" و"صحة المرأة" في مصر، التي أسهمت في خفض مشكلات صحة المرأة بنسبة 60%.

وأشاد بالخطوات الاستباقية التي اتخذتها السعودية والإمارات لتعزيز الصحة العامة، مثل اكتشاف الأمراض المزمنة مبكرًا وتحسين جودة حياة المواطنين من خلال سياسات صحية استباقية.

وفي ما يتعلق بتوفير الخدمات الصحية، شدد الدكتور عنان على أهمية ضمان الوصول العادل إلى الخدمات الصحية، خاصة في ظل التحديات الاقتصادية التي تؤثر على استيراد الأدوية في بعض دول الخليج مثل البحرين والسعودية، كما أكد على أهمية السياسات الضريبية لدعم الصحة العامة، مثل فرض ضرائب على المنتجات السكرية والسجائر، وهي سياسات لازالت غائبة عن معظم الدول العربية.

ودعا الدكتور عنان إلى إدخال مفاهيم الصحة العامة في المناهج التعليمية، مؤكدًا أن الوقاية تبدأ من الطفولة، وأشاد بالنماذج الناجحة في الإمارات والسعودية، التي دمجت مفاهيم الصحة العامة في التعليم المدرسي، بالإضافة إلى المبادرة المصرية التي تفحص أكثر من 10 ملايين طفل سنويًا لرصد مشكلات مثل السمنة والتقزم.

ترشيد الإنفاق الصحي

أشار الدكتور عنان إلى أن التحدي الأكبر في القطاع الصحي لا يكمن فقط في حجم الميزانيات، بل في كيفية ترشيد الإنفاق الصحي، وتحدث عن جهود دول الخليج مثل السعودية وأبوظبي في وضع آليات صارمة لشراء الأدوية، وضمان جودة العلاج من خلال استخدام البدائل المثيلة.

واختتم الدكتور عنان حديثه بتأكيد أن الحل الجذري يكمن في تغيير نمط الحياة والثقافة العامة، داعيًا إلى رفع الوعي الصحي في المجتمع عبر الإعلام والحملات المجتمعية.

وشدد على أن الصحة مسؤولية مشتركة بين الحكومة والقطاع الخاص، مع التركيز على أن المواطن هو الأولوية الدائمة في أي استراتيجية صحية.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية