العنصرية في لبنان.. ممارسات مستمرة وسط افتقار للحماية القانونية

العنصرية في لبنان.. ممارسات مستمرة وسط افتقار للحماية القانونية

مع دخول لبنان مرحلة جديدة يسعى فيها الجميع إلى بناء بلد قائم على حقوق الإنسان والمساواة، تعود قضايا التمييز إلى الواجهة، إذ سلطت الحادثة العنصرية التي تعرّضت لها المخرجة اللبنانية لمى الأمين الضوء على تركيبة المجتمع اللبناني والحاجة إلى معالجة جذور العنصرية.

وتروي لمى الأمين، ما جرى معها فتقول "كنت أقف في الطابور بمطار بيروت، عندما نادى علي عنصر في جهاز الأمن العام اللبناني أكثر من مرة مطلقا علي وصف "الإثيوبية"، وطالبا مني الخروج من طابور اللبنانيين، فأجبته أني لبنانية طالبة منه عدم الصراخ في وجهي".

وتابعت في حديث مع "جسور بوست"، أوضحت له أنه ليس كل صاحب بشرة سمراء هو إثيوبي، بل أن ليس كل لبناني بالضرورة بشرته بيضاء، ثم عاتبته كون أنه كان عليه التحدث بطريقة أكثر احتراماً.. صراحة، لقد أزعجني الأمر بشدة".

وأضافت الأمين "لاحقاً صورت فيديو مناشدة رئيس الجمهورية جوزيف عون، شارحة قصتي، واتصل بي الرئيس مستنكراً ما جرى وواعداً بالمحاسبة.. شخصياً أشعر أني أخذت حقي وحق الآخرين، وطالما أخذت إجراءات بحق العنصر المخالف، فهذا هو المهم".

وأنهت حديثها، قائلة، “أعتقد أنه يجب الضغط لكي يكون هناك قوانين تحمي المواطنين من الإيذاء، خاصة وأن لبنان فيه مواطنون من خلفيات عدة”.

وكان الأمن العام اللبناني قد أعلن في وقت لاحق عن فتح تحقيق في الحادثة، واتخاذ إجراءات بحق العنصر المخالف.

غضب شعبي ودعوات للتغيير

وتعليقاً على الحادث، يرى جاد، 32 سنة، أن "ما حدث في المطار ليس مجرد واقعة فردية، بل هو انعكاس لثقافة عنصرية متجذّرة لدى البعض في المجتمع اللبناني منذ سنوات".

وأضاف في حديث مع "جسور بوست"، قائلاُ "نحن نتعامل مع كل من تكون بشرته داكنة وكأنه خادم أو عامل منزلي، وهذا أمر غير طبيعي ولا يمكن قبوله، وحتى اللبنانيون يتعرّضون يوميًا للتمييز بسبب أنهم مثلاُ من طائفة ما أو منطقة معينة".

واختتم حديثه، قائلاً "يجب محاسبة كل عنصري، فالإنسان له كرامة، ومن واجب الدولة أن تكون الحامي الأول لها".

أما ريم، 27 سنة، فقالت "لم أشعر بالدهشة، لأنني -للأسف- معتادة على رؤية مثل هذه التصرفات، لكن ما يؤلم هو أن تأتي من جهة رسمية وفي مكان عام كمطار بيروت، والعنصرية في لبنان لا تقتصر على الأجانب فقط، بل تطول اللبنانيين أنفسهم، فغالباً ما نتعامل مع الآخرين بناءً على لون بشرتهم ولهجتهم ومظهرهم".

وتابعت ريم، في حديث مع "جسور بوست"، قائلة "لا يوجد ما يُسمى بنصف مواطن أو أقل لبنانية، علينا أن نعيد النظر في هويتنا، وأن ندرك أن التنوّع ليس تهديدًا، بل هو ثروة، ربما هزّت هذه الحادثة مشاعر البعض، لكنها يجب أن تتحوّل إلى دعوة جديّة للتغيير، لا مجرد ترند عابر".

واحتلّ لبنان عام 2015 المركز الثاني عالميًّا والأول عربيًّا في العنصريّة، إذ كشف %36.3 من المستطلعين أنّهم لا يرغبون في مجاورة أشخاص من أعراق أخرى، فيما قال 64.3% إنّهم شهدوا حوادث عنصرية.

بين المحاسبة والحماية 

وأوضحت المحامية غادة نقولا، أنه "يُفترض أن يخضع كل موظف عام للمساءلة عند ارتكابه أي فعل يُشكّل انتهاكًا للقانون أو تجاوزًا للصلاحيات، بما في ذلك الأفعال التي تتضمن عنصرية أو تمييزًا، غير أن الواقع اللبناني يعاني من ضعف كبير في تطبيق مبدأ المحاسبة، نتيجة عوامل متعددة، أبرزها التدخلات السياسية والطائفية التي تؤدي إلى الحماية من المساءلة، وانعدام الاستقلالية الفعلية لبعض أجهزة الرقابة والتفتيش".

وتابعت نقولا، في حديث مع "جسور بوست"، أنه لضمان نتائج عادلة وشفافة في حالات مماثلة، ينبغي تفعيل مبدأ المحاسبة الإدارية والجزائية بحق أي موظف يتورط في ممارسات تمييزية، وتأمين حماية للمبلّغين والشهود، إلى جانب ضرورة إشراك هيئات مستقلة، مثل هيئة وطنية لحقوق الإنسان أو لجنة تحقيق مستقلة، في عملية الرصد والتحقيق.

وأشارت إلى أن "اعتماد مقاربة قائمة على حقوق الإنسان داخل" المؤسسات الرسمية، من خلال التدريب الإلزامي على مبادئ المساواة وعدم التمييز، ونشر ثقافة المساءلة، يُشكلان ضمانة أساسية لمنع تكرار هذه الممارسات ولترسيخ العدالة".

ورغم أن النصوص اللبنانية تُجرم العنصرية، ترى نقولا أن "الإشكالية تكمن في ضعف التطبيق الفعلي لهذه النصوص، نتيجة لغياب آليات رقابة فعالة، وتداخل السلطات، وغياب الإرادة السياسية الجدية في مواجهة مظاهر العنصرية البنيوية والمجتمعية، فمن الناحية العملية، قلّما تُستخدم هذه المواد لمساءلة مرتكبي أفعال عنصرية، وخصوصًا عندما تصدر عن موظفين عموميين أو عناصر في أجهزة أمنية".

وأنهت حديثها، قائلة: "من هنا، ثمة حاجة فعلية إلى إصدار قانون خاص بمناهضة العنصرية والتمييز، يُعرّف بشكل واضح أشكال التمييز والعنصرية المباشرة وغير المباشرة، ويُنشئ هيئة رقابية مستقلة تُعنى بتلقي الشكاوى والتحقيق فيها، ويضمن توفير سبل الانتصاف الفعالة للضحايا، انسجامًا مع المعايير الدولية المنصوص عليها في الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري التي انضم إليها لبنان منذ عام 1971".

وتنص مقدمة الدستور اللبناني على أن "اللبنانيين سواء لدى القانون في الحقوق والواجبات"، في حين تتضمن بعض مواد قانون العقوبات، ولا سيما المادة 317، نصوصًا تُجرّم الأفعال التي تهدف إلى إثارة النزعات الطائفية أو العنصرية، أو التي تحضّ على التمييز.

وعي متزايد وتفاؤل

يرى الناشط الحقوقي علي نور، أن "العنصرية في لبنان ما زالت ظاهرة حاضرة ومقلقة، خصوصًا تجاه العمال الأجانب واللاجئين والفئات المهمشة".

وأضاف نور، في حديث مع "جسور بوست"، قائلاً: "للأسف هناك مؤشرات على تفاقم هذه الظاهرة في بعض الخطابات السياسية والإعلامية، لكن في المقابل، بدأ يظهر وعي متزايد لدى شريحة من الشباب والمجتمع المدني الذين يعملون على فضح هذه السلوكيات ومواجهتها".

وتابع نور: "من خلال اطلاعي على الجميعات في لبنان الاحظ أنه ما لا تزال مظاهر العنصرية واضحة في قطاعات العمل، حيث يُمارس التمييز على أساس الجنسية أو اللون، وأيضًا في التعليم والسكن والخدمات، ولذا نحتاج إلى سياسات عامة أكثر صرامة، وتربية مدنية تعزز قيم المساواة، لأن مجرد الوعي لا يكفي ما لم يُترجم إلى تغييرات فعلية في السلوك والممارسات اليومية".

ومن وقت إلى آخر، تقوم جمعيات لبنانية بإطلاق حملات توعية تهدف إلى محاربة العنصرية والتمييز.

أسباب وراء العنصرية

أوضحت الاختصاصية الاجتماعية، سيفان سنقجيان، أن "بعض السلوكيات العنصرية المنتشرة في لبنان كالسخرية أو التحقير من أصحاب البشرة السمراء أو من يُنظر إليهم على أنهم أجانب حتى لو كانوا لبنانيين، تٌظهر انعكاسًا عميقًا للعقلية السائدة التي تُميّز بين نحن وهم".

وأضافت سنقجيان، في حديث مع "جسور بوست" أنه "وفقًا لنظرية الهوية الاجتماعية، يميل الأفراد إلى تصنيف أنفسهم ضمن جماعات يشعرون بالانتماء إليها، ويضعون "الآخرين" خارجها، ما يبرّر لاشعوريًا التمييز ضدهم. هذه العقلية لا تولد من فراغ، بل تتغذى منذ الطفولة عبر التربية والمحيط، كما تشرح نظرية التعلّم الاجتماعي، حيث يكتسب الأفراد المواقف والسلوكيات العنصرية من خلال تقليد النماذج السائدة في الأسرة، الإعلام، أو المدرسة، خاصة في غياب خطاب بديل".

وأشارت إلى أن ذلك يتداخل مع ما أشار إليه "غرامشي" في نظرية الهيمنة الثقافية، إذ يشعر بعض اللبنانيين بالتفوّق الطبقي والثقافي على جماعات معينة، ما يعمّق الشعور بالتباعد والازدراء".

ورغم اقتناعها أن غياب المحاسبة القانونية والثقافية يرسخ العنصرية، ترى سنقجيان، أنه من أجل "التعامل مع هذه الظاهرة بفعالية واستدامة، لا بد من تبنّي تدخلات نفسية اجتماعية متعددة المستويات، تبدأ من التربية وتغيير المناهج، مرورًا بحملات التوعية التي تُركّز على القصص الإنسانية، وتفعيل مبدأ التفاعل الإيجابي بين الجماعات المختلفة، كما تقترح نظرية التلامس لـ Allport، وصولًا إلى إصلاحات قانونية جذرية، كإلغاء نظام الكفالة وتكريس المساواة أمام القانون.

وتابعت سنقجيان، أنه بدأت بالفعل تظهر مبادرات محلية واقعية تُشكّل نماذج أوليّة للتغيير، حتى ضمن واقع لبنان كدولة من العالم الثالث تواجه أزمات اقتصادية واجتماعية مزمنة، ففي بعض المدارس اللبنانية، بدأ معلمون بإدخال مفاهيم احترام التنوع والعدالة الاجتماعية ضمن الأنشطة الصفّية، من خلال سرد قصص عن "الاختلاف" أو عرض أفلام قصيرة تُناقش التمييز، وعلى المستوى الأهلي، أطلقت منظمات- عدة حملات توعية.. لفضح الصور النمطية ودعم العاملات الأجنبيات.

وقالت إن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت منصات فعالة لمقاومة العنصرية، حيث ينشر ناشطون مقاطع تفضح الخطاب العنصري وتحلّله بأسلوب مبسّط وساخر، وعلى المستوى الديني والمحلّي، فقد شهدت بعض المناطق مبادرات من رجال دين ومخاتير يؤكدون على كرامة الإنسان ويدينون العنف اللفظي والجسدي ضد الفئات المهمّشة، وداخل الأسر أيضًا، بدأت بعض العائلات اللبنانية تتبنّى خطابًا مختلفًا مع أبنائها، بتصحيح الكلمات العنصرية اليومية واستبدالها بلغة تحترم الآخر وتُرسّخ مفهوم المساواة".

واختتمت سنقجيان حديثها، قائلة، “كل هذه المحاولات، وإن كانت محدودة، تُظهر أن التغيير ممكن، ويبدأ من القاعدة: الأسرة، المدرسة، الحي، وليس فقط من المؤسسات العليا، التغيير الحقيقي لا يُقاس بسرعة النتائج، بل بمدى تراكم الوعي وإعادة تشكيل خطاب الهوية والانتماء في المجتمع اللبناني”.

وتشير نتائج استطلاع Arab Barometer إلى أن 49% من اللبنانيين يعدّون التمييز العرقي مشكلة جادة داخل المجتمع، في حين أن نحو 45% فقط يعترفون بوجود تمييز ملموس ضد الأشخاص ذوي البشرة السوداء.

جهات لها مصلحة بالعنصرية 

أكد مدير مركز التنمية الإنسانيّة للدفاع عن حقوق اللاجئين الفلسطينيين، سامر مناع، أهمية دور الإعلام المناهج التربوية وحملات التوعية، ولكنه يتساءل "هل أن مسألة مواجهة العنصرية أولوية بالنسبة للمجتمع؟".

وأضاف مناع، في حديث مع "جسور بوست"، قائلاً "إن التمييز العنصري يقوم على الجنسية أو الانتماء أو اللون أو غير ذلك، وشعبياً يمكن أن تعرف على أنها نظرة فوقية من أشخاص تجاه أشخاص معينين لأسباب عدة"، مشيراً إلى أن “هناك جهات قد تستخدم التنوع لبث التمييز العنصري، وقد ينتج عن ذلك كراهية تؤدي إلى فتنة.. نحن نعيش في حالة فوضى تؤدي إلى جهل وفقر يوصلان الظواهر السلبية”.

وقال مناع، إنه كفلسطيني يرى "أن الفلسطيني عانى من التمييز العنصري بسبب جنسيته.. وكان لبعض الأحزاب مصلحة في ذلك"، مذكراً بالتمييز الذي يتعرض له الفلسطيني لجهة الحق في العمل تحت شعار التنافس مع اللبناني، وهو ما يتعارض مع مبادئ حقوق الإنسان، على اعتبار أن سوق العمل يجب أن يكون مفتوح للأفراد على أساس الكفاءة وليس الانتماء. فالانتماء ليس هو المعيار لجودة العمل".

واختتم مناع، حديثه قائلاً "إن تفهم الآخر والتعامل معه على أساس الأخوة والإنسانية، والأخذ بالمساواة والعدالة أمور أساسية في المجتمع".



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية