فقدان البراءة.. كيف تسرق الجريمة الإلكترونية حقوق الطفولة في بريطانيا؟
فقدان البراءة.. كيف تسرق الجريمة الإلكترونية حقوق الطفولة في بريطانيا؟
تُواجِه بريطانيا أزمةً مُتفاقمة تُهدّد أمن وسلامة أطفالها، تتمثل في الارتفاع الحاد لأشكال الاستغلال والابتزاز الجنسي، لا سيما عبر الفضاء الرقمي، ما كان يُعدّ في السابق ظاهرةً هامشية، أصبح اليوم تهديدًا وطنيًا مباشرًا، يُغذيه تطور التكنولوجيا وانتشار "الشبكات السامة" التي تُجنّد القُصّر وتُعرّضهم للإذلال النفسي، ما قد يصل بهم إلى الانتحار، هذه الأزمة ليست مجرد مشكلة إجرامية، بل هي مرآة لقصور مؤسسي وتشريعي، يتطلب مراجعةً شاملةً لفعالية القوانين والسياسات، وتدخلاً عاجلاً من الشركات التقنية والسلطات القضائية والحقوقية.
وتُؤكّد البيانات الدولية والوطنية على خطورة الوضع، وفقًا لتقرير المركز الوطني للأطفال المفقودين والمُستغلّين (NCMEC)، ارتفعت بلاغات استغلال الأطفال عبر الإنترنت إلى مئات الآلاف عالميًا.
وفي بريطانيا، كشفت تحقيقات مشتركة عن أكثر من 9,600 بلاغ خلال ستة أشهر فقط من عام 2024، وهو ما يُمثّل قفزةً بنسبة 192% في الرسائل التي أبلغت عنها شركات التكنولوجيا، ولا تقتصر المشكلة على المحتوى الثابت، بل تتسع لتشمل الابتزاز الجنسي عبر الفيديو والدردشة، مما دفع منظمات حماية الطفل والشرطة إلى إطلاق تحذيرات عامة للمجتمع.
المنصات.. ساحة للجريمة أم أداة المكافحة؟
تُشكّل المنصات الرقمية حجر الزاوية في هذه الأزمة، فبينما تُقدّم مساحةً للتواصل والتعبير، فإنها تُوفّر أيضًا بيئةً خصبةً للمُجرمين، وتدفع المنافسة الشرسة بين الشركات التقنية إلى تخفيف القيود على الاستخدام وابتكار ميزات جديدة، مما يُسهّل على المُستغلّين الوصول إلى الأطفال.
وتُظهر البيانات أن تطبيقات معينة تُسجّل أعدادًا كبيرةً من البلاغات المتعلقة بمحتوى مشبوه، مما يثير تساؤلات حول مسؤولية هذه الشركات.
يُعدّ التشفير الكامل مثالًا حيًا على هذا التناقض، فبينما يحمي خصوصية المستخدمين، فإنه يُصعّب على المنصات والجهات الأمنية رصد حالات الاستغلال، ما يمنح المجرمين ملاذًا آمنًا.
وفي المقابل، يُسهّل غياب التشفير الكشف عن الانتهاكات، ولكنه يثير مخاوف تتعلق بالخصوصية والحريات الفردية، إنّ التوصل إلى حل عملي يتطلب توازنًا تقنيًا وقانونيًا دقيقًا يضمن حماية الأطفال دون المساس بالحقوق الأساسية للمستخدمين.
أنماط الابتزاز والشبكات الجديدة
كشفت التحقيقات الصحفية والجنائية عن وجود "دلائل إرشادية" ومواد تقنية تُوضّح طرق استدراج القاصرين وإقناعهم بتقديم صور أو فيديوهات، ليتم استخدامها لاحقًا في عمليات الابتزاز، وتُظهر التحقيقات أيضًا ظاهرة "جماعات إلكترونية" من المراهقين يُشاركون مواد إباحية ويُمارسون الضغط على الضحايا للامتثال، وهي ظاهرة تفاقمت بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة وتولّد هذه البيئات السامة دائرةً من الخوف، والإذلال، والعزلة، وقد دفعت عشرات القُصّر إلى أفعال إيذاء ذاتي، وفقًا لتقارير رسمية.
وتُوجّه المنظمات الحقوقية والدولية ضغوطًا متزايدة على الحكومة البريطانية والشركات التقنية للتحرّك بجدية، فقد أطلقت وكالة الجرائم الوطنية (NCA) حملات توعية وعمليات لمُلاحقة شبكات الابتزاز، بينما تُطالب جمعيات مثل NSPCC بتقوية خدمات دعم الضحايا وتدريب المدرسين وأولياء الأمور على كيفية الوقاية والكشف عن الانتهاكات.
منظمات دولية مثل اليونيسف والأمم المتحدة تُشدّد على ضرورة التنسيق الدولي لوقف انتشار المواد الإرشادية وتحسين قدرات الملاحقة الجنائية وتقديم الدعم النفسي للضحايا، وفي الاستجابة لهذه الضغوط، أقرت الحكومة البريطانية قانون Online Safety Act الذي يمنح الهيئة الرقابية (Ofcom) صلاحيات جديدة لفرض واجبات على المنصات لحماية الأطفال، كما أعلنت الحكومة عن تشديد القوانين لمواجهة الظواهر المستجدة مثل الصور الجنسية المولّدة بالذكاء الاصطناعي. إلا أن التحدي الأكبر يظل في التنفيذ الفعّال لهذه التشريعات، وتوفير الموارد اللازمة، وتعزيز التعاون الدولي لمواجهة الجرائم العابرة للحدود.
تداعيات حقوقية وإنسانية
إنّ الضرر الناجم عن الاستغلال الجنسي يتجاوز الآثار النفسية المؤقتة، فالأطفال الضحايا قد يُعانون من مشكلات صحية عقلية طويلة الأمد، وضعف في الأداء الدراسي، وعزلة اجتماعية، ومخاطر إيذاء النفس أو الانتحار، تُضاف إلى ذلك الوصمة الاجتماعية التي تُثبط الضحايا عن الإبلاغ، ما يُعزّز من ثقافة الإفلات من العقاب ويُحرمهم من شبكات الدعم.
تُطالب المنظمات الحقوقية بسياسات مستدامة تُوفّر خدمات دعم نفسي، وحماية للشهود من الأطفال، وتحسينًا لبيانات الضحايا بهدف تصميم استجابات دقيقة ومُتكاملة، إن حماية حقوق الطفل في العيش بأمان وكرامة هو حجر الزاوية في أي مجتمع صحي، ويُعدّ الفشل في توفير هذه الحماية انتهاكًا صارخًا لهذه الحقوق.
ولا يُمكن فهم الأزمة بمعزل عن جذورها التاريخية؛ فقد أدى التوسع الرقمي السريع، وسهولة الوصول إلى المحتوى الجنسي والعنيف عبر الإنترنت، إلى إضعاف الحواجز الاجتماعية التقليدية التي كانت تحمي الأطفال، كما كشفت مراجعات وتحقيقات سابقة عن فشل أنظمة الحماية في المدارس والمؤسسات المحلية في التعامل مع شكاوى الاستغلال، ما يُشير إلى أن مواجهة الظاهرة ليست مهمةً تقنيةً فقط، بل تتطلب إصلاحًا شاملاً لأنظمة الحماية والتربية في المجتمع.