دمشق بلا مأوى ميسور.. تضخم الإيجارات يحاصر العائلات ويحول السكن لرفاهية نادرة

دمشق بلا مأوى ميسور.. تضخم الإيجارات يحاصر العائلات ويحول السكن لرفاهية نادرة
دمشق

لا يعود ارتفاع الأسعار في دمشق إلى السلع الأساسية وحدها، فالمنزل نفسه صار سلعة نادرة. قفزت الإيجارات في أحياء العاصمة الشعبية والراقية على السواء، فيما تتدهور القدرة الشرائية وتتقلص فرص الدخل، فتتشابك أزمة السكن مع أزمات الغذاء والطاقة والعمل.

وفي مشهد كهذا، يغدو حق السكن اللائق سؤالاً إنسانياً وقانونياً على حد سواء، وتغدو الاستجابة له اختباراً لفاعلية السياسات المحلية واستمرارية الدعم الدولي.

وفق تقارير أممية وحقوقية حديثة، يعيش أكثر من ثلثي المواطنين في سوريا تحت خط الفقر، ويحتاج أكثر من ستة عشر مليون إنسان إلى المساعدة، بينما ترهق تكاليف المعيشة موازنات الأسر إلى حدود غير مسبوقة، وهذه الخلفية الكلية تنعكس مباشرة في سوق الإيجار والبيع بدمشق، حيث تتسابق الأسعار مع تراجع الدخل وتدهور العملة، فينكمش الحيز الممكن لحياة كريمة داخل المدينة.

ما الذي يحدث في السوق

تفيد مصادر صحفية واقتصادية محلية بارتفاعات حادة في الإيجارات خلال الأشهر الأخيرة، وصلت في بعض التقديرات إلى نحو ستين في المئة، مع شيوع تسعير العقود بالدولار في الأحياء الراقية مثل المزة وأبو رمانة والمالكي، وتفاوتات كبيرة حتى داخل الأحياء الشعبية حيث تتجاوز كلفة شقة صغيرة قدرة موظف حكومي بأضعاف.

وإلى جانب الإيجار، تواصل أسعار البيع صعودها، من مليارات الليرات في الضواحي إلى أرقام فلكية في قلب المدينة، ما يخرج التملك من حسابات معظم الطبقة الوسطى والفقيرة، هذه الاتجاهات وثّقتها تقارير صحفية سورية مستقلة منذ أواخر 2024 واستمرت خلال 2025، مع ملاحظة لجوء ملاك كثر إلى تعديل العقود بشكل متكرر أو فرض سداد نقداً بالدولار لتلافي خسائر سعر الصرف بحسب المفوضية السامية لحقوق الإنسان.

تآكل القدرة الشرائية

لا تُفهم قفزة الإيجارات من دون وضعها في سياق الغلاء العام، فبيانات برنامج الأغذية العالمي ومؤسسات دولية تشير إلى ارتفاعات كبيرة في تكاليف سلة الإنفاق الأساسية في سوريا على مدى 2024 و2025، مع استمرار هشاشة العملة وتآكل المداخيل الحقيقية للأسر.

وتشير تقديرات أممية إلى أن نسبة كبيرة من السكان باتت تعجز عن تلبية الحد الأدنى من احتياجات الغذاء والطاقة والمواصلات، ما يجعل كلفة السكن عبئاً مضاعفاً يلتهم معظم الدخل المتاح، ويزاحم النفقات الضرورية لبقاء الأسرة.

وفي هذا السياق، تبدو أي زيادة في الإيجار كفيلة بدفع الأسر إلى خيارات مؤلمة مثل الاكتظاظ السكني، أو الانتقال إلى مساكن دون المعايير، أو الديون المزمنة.

شهادات من الداخل

يقول أحمد، وهو موظف يعمل أسبوعاً في دمشق ويعود لعائلته نهاية الأسبوع إلى محافظة أخرى وفقاً لما أورده المرصد السوري لحقوق الإنسان، إن إيجار غرفة واحدة في دمشق يتجاوز ما يمكن تحمّله، وإن الراتب لا يكفي خبزاً.

وتقول عائلة انتقلت حديثاً إلى العاصمة إن القلق الأكبر صار من رسالة المالك مع بداية كل شهر يلمّح فيها إلى تعديل جديد. 

هذه الشهادات التي تتكرر في منصات الرصد المحلية تتقاطع مع تقارير إنسانية أممية ترى أن الضغط المعيشي يطول الفئات الأضعف أولاً، من الأسر التي تعيلها نساء وكبار السن، إلى النازحين داخلياً الذين يسكن كثير منهم في مساكن مؤقتة أو اتفاقات إيجار غير مستقرة، عدد النازحين داخلياً ما زال بالملايين على مستوى البلاد، وكثير منهم يتحرك بين المحافظات بحثاً عن فرصة عمل أو سكن أقل كلفة، ما يضيف ضغطاً إضافياً على سوق العاصمة. 

ولا يقف التحدي عند السعر، فالتعقيد الإداري في البيع والشراء وتعطّل التسجيل في بعض الدوائر أو تأخره يدفعان جزءاً من السوق إلى صفقات عرفية بلا حماية قانونية كافية، هذا الغموض القانوني يفاقم المخاطر على المشترين والمستأجرين على السواء، ويخلق بيئة خصبة للمضاربة والوساطة المفرطة.

وتؤكد منظمات إنسانية تعمل في سوريا أن الوصول إلى وثائق السكن والملكية يمثّل تحدياً بنيوياً يعرقل التعافي الحضري ويؤخر أي مسار منظم للعودة والاستقرار، وأن نقص الحماية التعاقدية يعرّض النساء على وجه الخصوص لابتزاز وتمييز في السكن والوصول إلى الخدمات. 

الحقوق لا تنفصل عن السكن

يقرّ العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بالحق في سكن لائق، وتشرح اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية في تعليقها العام رقم 4 أن هذا الحق يشمل القدرة على تحمل الكلفة وأمن الحيازة وعدم التمييز ومنع الإخلاء التعسفي. في الحالة السورية، تراكبت عوامل الحرب والهشاشة القانونية وسياسات سابقة مرتبطة بالإسكان والملكية لتجعل حماية هذا الحق أكثر صعوبة.

وقد حذّرت منظمات حقوقية مراراً من أن سياسات تخطيط أو قوانين عقارية مثيرة للجدل يمكن أن تُقصي فئات واسعة من الحق في التعويض أو العودة أو تثبيت الملكية، وبالنسبة للمستأجرين في دمشق اليوم، يترجم كل ذلك في ضعف الأمان السكني وارتفاع مخاطر الإخلاء، وغياب آليات إنفاذ فعالة تحدّ من التلاعب بالعقود أو المضاربة السعرية.

تؤكد وكالات الأمم المتحدة، ومن بينها مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية واليونيسف وبرنامج الأغذية العالمي، اتساع فجوة الاحتياجات في المدن السورية، مع شح التمويل وتصاعد الضغوط على الخدمات والبنى التحتية، وتصف تقارير حديثة الوضع بأنه أزمة معيشة ممتدة تتجاوز الإغاثة العاجلة إلى حاجة مُلحّة لسياسات سكنية وحضرية تحمي الفئات الأشد ضعفاً.

من جهتها، تحذّر منظمات حقوقية دولية ومحلية من أن انفلات السوق دون ضوابط فعالة يهدد بتحويل السكن إلى أداة إقصاء اجتماعي، وتطالب بوضع ضوابط لضمان الشفافية في عقود الإيجار ومنع التمييز ضد النازحين والنساء، إلى جانب تسهيل الوصول إلى الوثائق وتبسيط إجراءات التسجيل العقاري، كما تدعو منظمات إنسانية تعمل على قضايا السكن والأراضي والملكية إلى نهج متعدد القطاعات يجمع بين المساعدة الإيجارية المؤقتة، وبرامج النقد مقابل الإيجار، ودعم الترميم للمساكن المتضررة، وتوسيع الإسكان الميسور عبر شراكات مع البلديات. 

لماذا ترتفع الإيجارات بهذا الشكل

يتغذى منحنى الأسعار من مجموعة عوامل متشابكة تشمل التضخم، وتذبذب سعر الصرف مع دولرة جزء من السوق، ونقص العرض القابل للإيجار في أحياء مطلوبة بسبب التلف أو التهدم أو عدم الأمان القانوني، وتزايد الطلب المرتبط بحركة النزوح الداخلي وعودة جزئية إلى العاصمة بحثاً عن الخدمات والعمل.

إلى ذلك، تتسبب كلفة الطاقة والصيانة ورسوم الخدمات في دفع الملاك إلى تحميل المستأجرين جزءاً أكبر من الكلفة، في حين تغيب آليات ضبط فعالة لإيقاع السوق ويشير تحليل إنمائي حديث إلى أن سلة الإنفاق الأساسية للأسر ارتفعت بوتيرة تتجاوز قدرة الأسر على التكيّف وفق بيانات الأمم المتحدة والبنك الدولي.

في أحياء كثيرة من دمشق، تحوّلت بيوت العائلة الممتدة إلى مساكن مشتركة تضم أكثر من أسرة لتقاسم الإيجار والفواتير، و ازداد الاكتظاظ، وتراجعت معايير السلامة والصحة، وازدادت المسافات التي تقطعها النساء والأطفال إلى المدارس والعيادات بسبب الانتقال إلى ضواحٍ أبعد، في حين انتقلت أسر أخرى إلى مساكن دون معايير مناسبة من التهوية والإنارة والخدمات، أو إلى عقود مؤقتة غير رسمية بلا إيصال ولا حماية، ما جعلها أكثر عرضة للإخلاء التعسفي. 

وتحذر وكالات الإغاثة من أن السكن غير المستقر يضاعف مخاطر العنف القائم على النوع الاجتماعي، ويقلّص فرص العمل، ويضع الأطفال على عتبة عمالة مبكرة أو تسرب من التعليم وفق "ريليف ويب".

إجراءات عملية

توصي المنظمات الأممية والحقوقية بحزمة من الإجراءات العملية منها إنشاء آليات محلية شفافة لتسوية النزاعات العقارية وعقود الإيجار، وتبسيط إجراءات التوثيق والتسجيل وخفض كلفها، بما يعزز أمن الحيازة للمستأجرين ويحدّ من الإخلاء التعسفي، وإطلاق برامج دعم إيجاري مرن للأسر الأشد ضعفاً، عبر قسائم أو تحويلات نقدية مرتبطة بالامتثال لمعايير السكن وعدم رفع الإيجار تعسفاً خلال مدة الدعم، وتحفيز الترميم السريع للمخزون السكني القابل للتأهيل بالشراكة مع البلديات، مع نماذج تمويل صغيرة ميسرة لأصحاب العقارات مقابل التزام بتأجيرها بسعر ميسور لفترة محددة وكذلك إعادة تفعيل مسارات الإسكان الاجتماعي والإسكان منخفض الكلفة وتوسيعها، واستحضار أدوات تخطيط حضري تعطي الأولوية للعدالة المكانية في الوصول إلى الخدمات بجانب مراجعة الأطر القانونية الخاصة بالسكن والأراضي والملكية بما يضمن المواءمة مع التزامات سوريا بموجب العهد الدولي، وتضمين معايير منع الإخلاء التعسفي وعدم التمييز وحماية النساء من فقدان السكن بعد الترمل أو الطلاق. 

وبحسب موقع "ريليف ويب" فإن أزمة الإيجارات في دمشق ليست مجرد مسألة عرض وطلب، إنها مرآة لأزمة معيشية ممتدة وحق إنساني مهدور، حين يبتلع الإيجار دخل الأسرة أو يدفعها إلى مساكن دون المعايير، تصبح الكلفة الحقيقية صحية وتعليمية وأمنية واجتماعية.

بحسب مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية والاتحاد الأوروبي، يحتاج نحو 16.5 مليون شخص داخل سوريا إلى مساعدات في 2025، مع أكثر من سبعة ملايين نازح داخلياً، وارتفاع ملحوظ في تكاليف سلة الإنفاق الأساسية.، تشير تقييمات برنامج الأغذية العالمي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي إلى تضخم ممتد أضعف القدرة الشرائية، وارتفاع في مكونات سلة المعيشة يضغط على بنود السكن والغذاء والطاقة، في المقابل، تتبنى المنظومة الحقوقية الدولية مرجعيات صريحة للحق في السكن اللائق ومنع الإخلاء التعسفي، وتوصي الأدلة الإرشادية الخاصة بالسكن والأراضي والملكية في الأزمات بكفالة الوثائق، وتيسير التسجيل، وحماية النساء والفئات الهشة.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية