وصمة العار والإفلات من العقاب يضاعفان معاناة ضحايا العنف الجنسي بمناطق النزاع
وصمة العار والإفلات من العقاب يضاعفان معاناة ضحايا العنف الجنسي بمناطق النزاع
العنف الجنسي المرتبط بالنزاعات يأخذ أشكالاً متعددة ويترك أثراً إنسانياً طويل الأمد على الناجيات والناجين ومجتمعاتهم. تقارير أممية وحقوقية حديثة توثق ارتفاعاً ملموساً في حالات العنف الجنسي المرتبط بالحروب خلال العام الأخير، وتربط بين هذا التصاعد وتراجع الخدمات الإنسانية وندرة التمويل وغياب المحاسبة، ما يجعل معالجة الأزمة أمراً عاجلاً على المستويين الإنساني والقانوني.
العنف الجنسي في النزاعات ليس ظاهرة حديثة، إذ ارتبط تاريخياً بكثرة الحروب، من البلقان إلى رواندا، لكن الاعتراف الدولي به بصفته جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية لم يترسخ إلا في تسعينيات القرن الماضي من خلال محاكمات يوغوسلافيا ورواندا، ومنذ اعتماد قرار مجلس الأمن 1325 عام 2000 بشأن "المرأة والسلام والأمن"، بات المجتمع الدولي مطالباً بتضمين الحماية من العنف الجنسي في استراتيجيات السلام والأمن.
ومع ذلك، لا تزال الهوة قائمة بين النصوص القانونية والواقع الميداني، حيث يواجه الناجون عقبات هائلة في الوصول إلى العدالة والخدمات، في حين يبقى الجناة في كثير من الحالات بعيدين عن المحاسبة.
أرقام دولية موثقة
أحدث تقرير أممي صدر يوم الثلاثاء وفق موقع أخبار الأمم المتحدة أشار إلى توثيق أكثر من 4600 حالة عنف جنسي مرتبطة بالنزاعات خلال عام 2024، بارتفاع نسبته 25 في المئة عن عام 2023، ويبرز التقرير أيضاً أن النساء والفتيات شكلن نحو 92 في المئة من الضحايا، في حين سجلت حالات العنف ضد الأطفال ارتفاعاً بنحو 35 في المئة، كما أدرج التقرير 63 جهة تُشتبه بشكل موثوق في ارتكاب أو تحمل مسؤولية أنماط من العنف الجنسي في مناطق نزاع عدة.، وتمثل هذه الأرقام الرسمية على الأرجح جزءاً من حجم الأزمة الحقيقي، إذ تعوق وصمة العار وقنوات الإبلاغ غير الآمنة تسجيل العديد من الحوادث وفق موقع "ريليف ويب".
الوثائق الأممية والحقوقية تؤكد أن العنف الجنسي يُستخدم سلاح حرب واستراتيجية للقمع وبسط السيطرة، لا سيما من قبل جماعات مسلحة غير حكومية، لكنه لا يقتصر عليها وقد تنخرط فيه أيضاً قوات نظامية، وتشير البيانات إلى أن الأسلحة النارية حاضرة في نسبة كبيرة من الحالات الموثقة، وأن الاعتداءات قد تقع في الميادين العامة أو في مراكز الاحتجاز أو أثناء عمليات التهجير والبحث عن المأوى، ما يزيد من خطورة الأثر على الضحايا والمجتمعات.
التقارير الدولية تشير إلى تركيز كبير للحالات الموثقة في مناطق مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية، والسودان، وجنوب السودان، والصومال، وجزء من منطقة الساحل، كما سُجلت حالات بارزة في ليبيا والأرض الفلسطينية المحتلة وأوكرانيا، وفي السودان، وثقت منظمات حقوقية وتقارير أممية لاحقاً وقوع موجات واسعة من الاعتداءات الجنسية، وذُكِر أن ملايين الأشخاص معرضون لخطر العنف الجنسي في سياق الحرب الأهلية والانقسامات المسلحة
بينما تحتاج الناجيات والناجون إلى رعاية طبية عاجلة، خدمات صحية نفسية، دعم قانوني، ومأوى آمن، تكشف مؤسسات أممية عن تراجع حاد في تمويل برامج الاستجابة للعنف القائم على النوع الاجتماعي. تقرير صريح من صندوق الأمم المتحدة للسكان (UNFPA) يشير إلى أن خطط الاستجابة لعدد من الأزمات كانت ممولة بنسبة تقل عن 30 في المئة، وأن ملايين النساء والفتيات لا يتلقين خدمات أساسية، ويؤدي نقص التمويل إلى إغلاق مراكز استقبال الناجين، وغياب مختصين، وانقطاع الإمدادات الطبية، ما يجعل الوصول إلى الرعاية المنقذة للحياة أمراً صعب التحقيق.
الآثار الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية
العنف الجنسي لا يقتصر أثره على الضرر الجسدي والنفسي المباشر، بل يمتد ليشمل العزلة الاجتماعية، فقدان سبل العيش، الحمل القسري، التهميش التعليمي للأطفال، وتفكك الأسر، ففي كثير من السياقات، يجد الناجون أنفسهم معرضين للوصم أو حتى للانتقام، في حين تفتقر الأنظمة القضائية المحلية إلى الآليات الفعالة للتحقيق والملاحقة، وهذا النقص في العدالة يحول دون إعادة بناء الثقة المجتمعية ويطيل مسارات التعافي، وفق "يونيسيف".
توثيق الانتهاكات يواجه عقبات منهجية وأمنية منها الخوف من الانتقام الذي يمنع الضحايا من الإبلاغ، والمنظمات المحلية قد تفتقر لموارد التسجيل الآمن، ومراكز الاستجابة قد تُستهدف أو تُدمر، كما تؤثر القيود على حرية الحركة ومنع وصول المساعدات الإنسانية في إخفاء حالات كثيرة عن الأنظار، لذلك، تُعتبر الأرقام المعلنة أدنى كثيراً من الواقع، وتستدعي تحسين آليات الرصد وحماية الشهود والمبلغين بحسب الأمم المتحدة.
وردت منظمات حقوقية دولية مثل هيومن رايتس ووتش وأمنستي بقوة على حالات موثقة في مواقع محددة، وطالبت بفتح تحقيقات ومحاكمات مستقلة ضد المسؤولين، كما دعت الأمم المتحدة عبر مكاتبها المعنية إلى توسيع التمويل لبرامج الحماية ودعم الشركاء المحليين، وأكدت على ضرورة دمج الاستجابة للعنف الجنسي ضمن خطط الطوارئ الإنسانية الأساسية، وطالبت كذلك منظمات متخصصة في حماية الناجين بتوفير مسارات آمنة للإبلاغ وخدمات شاملة متاحة دون قيود، وبتفعيل آليات مساءلة دولية عندما تعجز الأنظمة المحلية عن التحقيق.
الإطار القانوني والالتزامات الدولية
القانون الدولي الإنساني وقوانين حقوق الإنسان تحظر العنف الجنسي وتجعله جريمة يحاسب عليها، وقد صنفت محاكم دولية اعتداءات من هذا النوع جرائم حرب وجزءاً من الجرائم ضد الإنسانية في حالات معينة، فمجلس الأمن وقرارات المرأة والسلام والأمن يشددان على حماية النساء والفتيات ومساءلة الجناة، ومع ذلك، أفضت ثغرات تطبيقية وفجوات سياسية إلى إفلات كثير من مرتكبي الانتهاكات من العقاب، ما استدعى دعوات أممية متكررة لتعزيز آليات التحقيق والملاحقة الدولية ودمج البعد الجنائي في استراتيجيات الحماية.
وتؤكد الأمم المتحدة على ثلاثة عناصر أساسية تبدو حاسمة لتحسين الاستجابة: أولاً: زيادة وتمويل مستدام لبرامج الحماية وخدمات الناجين، مع تخصيص حصص واضحة للمنظمات النسائية المحلية، ثانياً: ضمان وصول آمن ومستمر للمساعدات والأنشطة الوقائية في مناطق النزاع دون عراقيل سياسية أو أمنية، وثالثاً: تعزيز آليات المساءلة عبر دعم تحقيقات مستقلة وقنوات إحالة قضائية، إلى جانب حماية الشهود والناجين من الانتقام، كما دعت الجهات الأممية إلى تقليل الاعتماد على حلول قصيرة الأجل والتركيز على بناء قدرات مجتمعية طويلة الأمد لتمكين النساء وللحد من إفلات الجناة.
الوثائق الدولية تشير إلى ارتفاع موثق في حالات العنف الجنسي المرتبط بالنزاعات في 2024 بنسبة 25 في المئة، مع أكثر من 4,600 حالة مسجلة، و92 في المئة من الضحايا من النساء والفتيات، وارتفاع حاد في الاعتداءات ضد الأطفال، وهذه المؤشرات تتقاطع مع بيانات حول نقص التمويل وارتفاع عدد الأشخاص المعرضين للخطر في بؤر مثل السودان والكونغو، ما يجعل الاستجابة الميدانية عاجلة وأولوية إنسانية وقانونية.