تفكك الجبهة المصرفية للمناخ.. حين يتراجع التمويل عن مسؤوليته تجاه الحق في بيئة آمنة

تفكك الجبهة المصرفية للمناخ.. حين يتراجع التمويل عن مسؤوليته تجاه الحق في بيئة آمنة
الطاقة المتجددة

 

يُفكّك تحالف البنوك العالمي للمناخ آخر ما تبقّى من التزامات مالية لأجل المناخ، بعد أربع سنوات فقط من انطلاقه بصفته أحد أكثر التحالفات طموحًا في التاريخ المالي الحديث، حيث أعلن "تحالف صافي الانبعاثات الصفرية المصرفي" (NZBA)  عن إيقاف عملياته فورًا، بعدما صوّت أعضاؤه على الحلّ النهائي، في خطوةٍ وصفها مراقبون بأنها ضربة موجعة للجهود الدولية الرامية إلى مواءمة النظام المالي مع أهداف اتفاق باريس للمناخ.

يُقرّ التحالف في بيانه بأن هذا القرار جاء بعد فقدان أبرز أعضائه من وول ستريت والمراكز المالية الأوروبية واليابانية والكندية، إثر ضغوط سياسية متصاعدة وتهديدات قضائية من أطراف تتهم التحالف بـ"التواطؤ" في سياسات مناهضة لمصالح الطاقة التقليدية.

ويُوضح أن تحالف (NZBA)  سيوقف عملياته على الفور، في حين تظل إرشادات التحالف متاحة بوصفها مرجعاً استشارياً للبنوك الراغبة في مواصلة تقييم مخاطر المناخ على نحو فردي.

فشل الالتزامات الجماعية

يُسجّل هذا الانهيار تراجعًا واضحًا عن التعهدات التي وُقّعت عام 2021 بدعم من مارك كارني، رئيس الوزراء الكندي الحالي والمبعوث السابق للأمم المتحدة للعمل المناخي.

تُشير "فايننشيال تايمز" إلى أن التحالف تأسس في أجواء من الحماس العالمي عقب جائحة كورونا وقبيل قمة المناخ في غلاسكو، حين بدا أن القطاع المالي بدأ أخيرًا يتعامل بأن الحق في بيئة سليمة ومستقبل مستدام جزء من مسؤوليته المؤسسية.

غير أن تلك الطموحات ما لبثت أن تراجعت مع تغير المزاج السياسي في الولايات المتحدة، إذ انسحبت أكبر البنوك الأمريكية -جي بي مورغان تشيس، وسيتي جروب، وبنك أوف أمريكا، ومورغان ستانلي، وويلز فارجو- ثم تبعتها بنوك أوروبية كبرى مثل إتش إس بي سي وباركليز.

وتُؤكد "الغارديان" أن الانسحابات بلغت ذروتها بعد إعادة انتخاب ترامب الذي رفع شعار "احفروا، احفروا، احفروا"، مكرّرًا رفضه سياسات المناخ، في حين وصَف تغيّر المناخ بأنه "عملية احتيال"، والسياسات البيئية بأنها "خدعة".

وتُشير الصحيفة البريطانية إلى أن البنوك الأعضاء المتبقية صوّتت في نيسان للتخلي عن هدف 1.5 درجة مئوية المحدد في اتفاق الأمم المتحدة، مكتفيةً بأهداف أقل تشددًا، ما يعني عمليًا تراجعًا عن الالتزام بحق الإنسان في بيئة آمنة ومستقرة مناخيًا.

تُبرز "فايننشيال تايمز" موقف جين مارتن، المديرة المشاركة للمشاركة المؤسسية في منظمة ShareAction غير الربحية، التي وصفت التصويت للحل بأنه "مخيّب للآمال للغاية"، مؤكدة أن المساءلة المناخية جزء لا يتجزأ من واجب البنوك تجاه المجتمع والاقتصاد.

تُضيف مارتن: "يحتاج كبار المصرفيين إلى التحلّي بشجاعة أكبر بكثير في هذه اللحظة الحاسمة، من أجل مستقبلنا جميعًا".

وتُجادل بأن الدعم الشعبي للعمل المناخي لا يزال قويًا، وأن المستثمرين يدركون المخاطر الاقتصادية لتقاعس المؤسسات المالية، بعد أن تسبب تغيّر المناخ في ارتفاع أسعار الغذاء، وتدمير المنازل والأرواح جراء الكوارث الطبيعية.

التمويل بين الوهم والتنصّل

ويشير موقع "سويس إنفو" إلى أن التحالف المصرفي الصِفري تأسس عام 2021 ضمن مبادرة التمويل لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP-FI)، بوصفه منصة لتشجيع البنوك على اتخاذ خطوات ملموسة نحو الحياد الكربوني، وخفض بصمتها الكربونية عبر القروض والاستثمارات.

يُبيّن التقرير أن من أبرز أعضائه في ذروته 150 بنكًا عالميًا، من بينها مؤسسات أوروبية مثل بي إن بي باريبا، وكريدي أجريكول، وسوسيتيه جنرال، وكريدي موتويل، ومجموعة بي بي سي إي، والبنك البريدي.

غير أن هذا التكتل الذي بدا في بدايته آلية مؤسسية لإدماج معايير العدالة المناخية في النظام المالي، تحوّل تدريجيًا إلى واجهة شكلية بعد انسحاب عدد من البنوك الكبرى.

وانسحب أن بنك UBS السويسري، أحد الأعضاء المؤسسين، في أغسطس الماضي، رغم إشادته بدور التحالف "القيم".

ويؤكد البنك السويسري أنه سيواصل طموحه في مجال الاستدامة بشكل مستقل، في إشارة إلى انفصال متزايد بين الالتزامات الطوعية الجماعية والإجراءات المؤسسية الفردية.

وتُظهر تقارير "سويس إنفو" أن الانشقاقات بين ضفتي الأطلسي بدأت نهاية العام الماضي، عقب انتخاب ترامب رئيسًا للولايات المتحدة، مع وعوده المتكررة بتوسيع التنقيب عن النفط والغاز.

تُبرز الوثائق الداخلية التي اطلعت عليها وكالة فرانس برس أن التحالف أجرى تعديلًا دلاليًا على أهدافه، حيث تحوّلت "التوجيهات" إلى "إرشادات"، واستُبدلت "المتطلبات" بـ"توصيات"، وهي صياغات تخفف من الإلزام وتُفرغ الالتزامات المناخية من مضمونها القانوني والمعياري.

وتوضح التقارير أن هذا التحول اللغوي لم يكن محايدًا، بل شكّل تراجعًا فعليًا عن مبدأ الشفافية والمسؤولية البيئية الذي تعهدت به المؤسسات المالية أمام الأمم المتحدة.

وتُشير "الغارديان" إلى أن التحالف تراجع بسرعة مع تصاعد السياسات المناهضة لـ"اليقظة البيئية" في الولايات المتحدة، واتهام المؤسسات المالية بـ"تسييس التمويل".

وتصف لوسي بينسون، مديرة حملة استعادة التمويل، زوال التحالف بأنه "يوفّر وضوحًا"، مؤكدة أن المؤسسات الملتزمة حقًا باحتواء الاحتباس الحراري ستواصل العمل، لكن إعادة توجيه التدفقات المالية نحو الحلول الخضراء لا يمكن أن تتم دون تدخل من صانعي السياسات والجهات التنظيمية.

غياب الإرادة السياسية

تُبرز "فايننشيال تايمز: أن انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس للمرة الثانية في عهد الرئيس دونالد ترامب يُعدّ ضربة مباشرة لجهود التنسيق المناخي، خصوصًا أن الاقتصاد الأمريكي كان المموّل الأكبر لمبادرات خفض الانبعاثات في القطاع المالي.

ويُضيف التقرير أن عدم إرسال واشنطن وفدًا إلى قمة المناخ COP30 المرتقبة في نوفمبر يكرّس عزلة سياسية عن مسار المناخ الدولي.

ويؤكد أن استمرار ارتفاع الخسائر المالية والمؤمنة الناجمة عن الظواهر الجوية المتطرفة لم يغيّر موقف البيت الأبيض الذي وصف سياسات المناخ بـ"الخدعة البيئية".

وتُبرز "سويس إنفو" أن رابطة البنوك النيوزيلندية (NZBA) وعدت بتطوير أكثر من 500 هدف قطاعي لتحقيق الصفر الكربوني، ضمن برنامج الأمم المتحدة للبيئة، لكن تلك الأهداف لم تجد طريقها للتنفيذ بعد انسحاب الأعضاء الرئيسيين.

وتنقل "الغارديان" عن متحدث باسم التحالف تأكيده أن "إرشادات التحالف ووثائقه ستظل متاحة للعامة"، مضيفًا أن البنوك الفردية حول العالم يمكنها الاستمرار في استخدامها.

ورغم ذلك، يرفض المتحدث إجراء مقابلات صحفية "في هذه المرحلة"، في دلالة على صمت مؤسسي يعكس حجم التراجع عن التعهدات المناخية.

تُختتم تصريحات جين مارتن بالتأكيد أن فشل التحالفات المالية في الوفاء بالتزاماتها يهدد حق الأجيال القادمة في بيئة آمنة وتنمية مستدامة، وأن غياب الشجاعة المؤسسية يعرّض الاقتصاد العالمي لمخاطر لا تقل خطورة عن الأزمات المالية نفسها.

في الختام يكشف انهيار التحالف المصرفي العالمي للمناخ هشاشة البنية الحقوقية في التمويل الدولي، حين تُفرّغ الالتزامات البيئية من مضمونها الأخلاقي وتتحول إلى خيارات سياسية.

ويُبرز أن الحق في بيئة سليمة لا يُصان بالتصريحات الطوعية، بل بالمساءلة المؤسسية الملزمة التي تضع الإنسان في مركز السياسات الاقتصادية والمصرفية، وهي النقطة التي يظل العالم بعيدًا عنها أكثر من أي وقت مضى.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية