مهاجرون بين الجدران والأسلاك.. خطة أمريكية لبناء مراكز احتجاز تثير جدلاً حقوقياً
تكلفتها تصل إلى 10 مليارات دولار
في واحدة من أكثر الخطط المثيرة للجدل في تاريخ سياسات الهجرة الأمريكية، كشفت شبكة "سي إن إن" يوم الجمعة عن مشروع ضخم تُخصِّص له وزارة الأمن الداخلي الأمريكية عشرة مليارات دولار، لبناء شبكة من مراكز احتجاز المهاجرين في أنحاء الولايات المتحدة.
وبحسب الوثائق والمصادر التي استند إليها التقرير، تتولى البحرية الأمريكية عملية التعاقد والإنشاء لتسريع البناء، ضمن خطة تهدف إلى تنفيذ برنامج ترحيل جماعي واسع النطاق للمهاجرين غير النظاميين، ويبدو أن هذه الخطوة تمثل تحوّلاً جذريًا في آليات التعامل مع الهجرة، إذ تمزج بين الطابع العسكري والبيروقراطي لتشكيل منظومة احتجاز تمتد على مستوى البلاد، في خطوة وُصفت بأنها الكبرى من نوعها منذ عقود.
خلفية المشروع وأهدافه
توضح المعلومات أن مراكز الاحتجاز المزمع إنشاؤها داخل الولايات المتحدة ستكون في ولايات منها لويزيانا وجورجيا وبنسلفانيا وإنديانا ويوتا وكانساس، وأن كل مركز سيستوعب ما يصل إلى عشرة آلاف شخص، في بنية مبدئية تعتمد على خيام ضخمة أو منشآت مؤقتة قد تُبنى على أراضٍ عسكرية، وتأتي هذه الخطة في وقت تسعى فيه الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس دونالد ترامب إلى مضاعفة قدرة الاحتجاز الحالية، بعد أن كانت دائرة الهجرة والجمارك الأمريكية تدير ما يقارب واحدًا وأربعين ألف سرير فقط. ويبدو أن هذا القرار يعكس رغبة سياسية واضحة في تشديد القبضة على ملف الهجرة، وتحويل الاحتجاز إلى أداة مركزية في إدارة الحدود وإنفاذ القانون، ضمن مشروع يُراد له أن يغيّر وجه الهجرة في الولايات المتحدة.
اللافت في الخطة أن تنفيذها يعتمد على آليات التعاقد داخل المؤسسة العسكرية، تحديدًا من خلال قيادة أنظمة الإمداد التابعة للبحرية الأمريكية التي تُعدّ عادة ذراعًا لوجستيًا للعمليات العسكرية في الخارج، وقد جرى تعديل نظام تعاقد معروف باسم "WEXMAC" ليشمل الأراضي الأمريكية، بحيث يُسمح باستخدامه لتوفير بنية تحتية وموظفين وخدمات احتجاز لصالح وزارة الأمن الداخلي، وهذا التعديل الإداري الظاهري يخفي في جوهره توسعًا غير مسبوق في صلاحيات المؤسسة العسكرية داخل الشأن المدني، وهو ما يثير تساؤلات قانونية حول مبدأ الفصل بين الأمن القومي وإنفاذ القانون الداخلي، خاصة أن استخدام الموارد الدفاعية في قضايا الهجرة يمثل خروجًا عن القاعدة التي تقيّد تدخل الجيش في القضايا الداخلية.
من ضرورة لوجستية إلى صناعة
الاحتجاز لم يعد مجرد وسيلة مؤقتة لضبط تدفقات المهاجرين، بل تحوّل إلى ما يشبه الصناعة، تستفيد منها الشركات الأمنية الخاصة والمقاولون الفيدراليون، ومن خلال العقود الجديدة، ستُمنح الشركات صلاحيات واسعة لبناء وتشغيل مرافق احتجاز معقدة تضم قاعات محاكم ومساحات إدارية ومرافق خدمية خاصة بموظفي دائرة الهجرة والجمارك، ومع هذا التوسع تتعزز المخاوف من أن تتحول هذه المراكز إلى مشاريع ربحية طويلة الأمد، تُبنى وتُدار بمعايير اقتصادية أكثر منها إنسانية، بحيث تصبح حياة المهاجرين مجرد عنصر ضمن معادلة الإنفاق والعائد، وقد سبق أن وثّقت منظمات رقابية أن مراكز الاحتجاز الخاصة في تكساس وأريزونا انتهكت عشرات المعايير الفيدرالية، منها التهوية والصحة والنظافة والمعاملة الإنسانية.
في قلب هذا المشهد، تختفي القصص الفردية خلف الأرقام. فكل رقم في خطط البناء يُخفي إنسانًا قد يكون لاجئًا فارًا من العنف أو طفلاً عبر الحدود بحثًا عن ذويه. تشير تقارير منظمات حقوقية أمريكية إلى أن ظروف الاحتجاز في بعض المراكز القائمة غير إنسانية، حيث يعاني المحتجزون من الاكتظاظ ونقص الرعاية الصحية وسوء المعاملة، وتؤكد تقارير مستقلة، مثل تلك التي نشرها مكتب السيناتور جون أوسوف عام 2025، أن أكثر من خمسمئة بلاغ موثوق وُثّق ضد مؤسسات احتجاز في 25 ولاية تتعلق بإهمال طبي وانتهاكات جسدية ونفسية، بعضها بحق نساء حوامل وأطفال، هذه الوقائع تدفع المراقبين إلى التساؤل عمّا إذا كانت المراكز الجديدة ستكرر أخطاء الماضي على نطاق أوسع وبإمكانات أكبر.
الموقف الحقوقي المحلي والدولي
تلقّت الخطة ردود فعل غاضبة من منظمات المجتمع المدني داخل الولايات المتحدة وخارجها، فقد عبّر الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية (ACLU) عن قلقه العميق من توسع منظومة الاحتجاز على حساب بدائل إنسانية أقل قسوة مثل الإشراف المجتمعي أو إطلاق الكفالات، وأشارت المنظمة إلى أن سياسة الاحتجاز الجماعي تهدد الحقوق الأساسية في الحرية والمحاكمة العادلة، وتفتح الباب أمام احتجاز أشخاص لفترات طويلة دون مراجعة قضائية، كما أصدرت منظمة "هيومن رايتس ووتش" تقارير توثّق حالات انتهاك ممنهج لحقوق المهاجرين في مرافق الاحتجاز الحالية، معتبرة أن توسيعها سيضاعف المعاناة ويزيد من معدلات الاكتظاظ.
على الصعيد الدولي، عبّرت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان عن قلقها من أن الاحتجاز يجب أن يظل استثناءً وليس قاعدة، وأكدت أن الولايات المتحدة بصفتها طرفًا في اتفاقيات جنيف والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، مُلزمة بضمان معاملة إنسانية واحترام الكرامة لكل من يوجد على أراضيها، بغضّ النظر عن وضعه القانوني، كما انتقدت منظمات حقوقية قرار واشنطن الأخير بعدم المشاركة في المراجعة الدورية الشاملة لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة، معتبرة أنه مؤشر على رغبة في تفادي المساءلة الدولية في وقت تتسع فيه ممارسات تقييد الحريات.
القانون والدستور بين الأمن والحرية
يؤكد خبراء قانونيون أن المشروع الجديد قد يثير سلسلة من الطعون الدستورية، إذ يمكن اعتباره شكلًا من أشكال الاحتجاز الجماعي الذي يتعارض مع مبدأ المراجعة الفردية لكل حالة، وهو مبدأ أساسي في القضاء الأمريكي، كما يُحتمل أن يُفتح الباب أمام نزاعات قضائية تتعلق باستخدام التمويل العسكري في أغراض مدنية، وهو ما قد يشكّل سابقة قانونية تمسّ التوازن بين السلطات، ويخشى محامو المهاجرين من أن تسارع الإجراءات التي تُنفذ تحت مظلة الأمن القومي سيؤدي إلى تقييد حق الدفاع والتمثيل القانوني للمحتجزين، خاصة إذا كانت هذه المراكز تقع في مناطق نائية بعيدة عن المحاكم والجهات الحقوقية.
الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية للمشروع
من الناحية الاقتصادية، يبلغ حجم الاستثمار المخصص للمشروع نحو عشرة مليارات دولار، إضافة إلى تمويل سابق بقيمة خمسة وأربعين مليار دولار خصصته إدارة الهجرة والجمارك لبناء مرافق جديدة، هذا الرقم الهائل يثير جدلاً حول جدوى إنفاقه في بناء مراكز احتجاز بدلاً من تعزيز أنظمة اللجوء والدمج الاجتماعي، كما أن التوسع في التعاقد مع الشركات الخاصة يعمّق ما يسمى بـ"اقتصاد الاحتجاز"، حيث تصبح السياسات مقيدة بمصالح اقتصادية تسعى لاستمرار العقود وتجديدها، ويرى محللون أن هذه المنظومة تُعيد إنتاج حلقة مغلقة من الإنفاق والعنف البيروقراطي، قد تمتد آثارها لعقود وتؤثر في النسيج الاجتماعي في المجتمعات المحلية المحيطة بالمراكز.
سياسات الاحتجاز في الولايات المتحدة ليست وليدة اللحظة، فقد بدأت تتوسع منذ نهاية التسعينيات بعد تشريع قوانين مشددة للهجرة، ثم تسارعت عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر تحت ذريعة الأمن القومي، غير أن ما يجري اليوم يُعدّ قفزة نوعية في الحجم والتكلفة والتداخل المؤسسي بين الدفاع والأمن الداخلي، وتشبه بعض الأصوات هذا المشروع بما عرف تاريخيًا بمعسكرات الاحتجاز اليابانية أثناء الحرب العالمية الثانية، حين تم تبريرها بدوافع أمنية ثم وُصفت لاحقًا بأنها واحدة من أحلك صفحات الحقوق المدنية الأمريكية، هذه المقارنة تذكّر بأن الأمن وحده لا يكفي لتبرير سياسات تمسّ كرامة الإنسان وحقه في الحرية.
المشروع الجديد لتوسيع مراكز احتجاز المهاجرين في الولايات المتحدة يمثل لحظة مفصلية في العلاقة بين الدولة والإنسان، فبينما يرى صانعو القرار أنه ضرورة أمنية لضبط الحدود وإنفاذ القانون، يراه المدافعون عن الحقوق الإنسانية انحدارًا نحو نموذج قاسٍ يحوّل الهجرة إلى جريمة، والمهاجر إلى متهم دائم، مؤكدين أن تخصيص عشرة مليارات دولار لبناء جدران جديدة لن يحلّ جذور أزمة الهجرة المتشابكة، بل قد يعمّقها بتحويلها إلى قضية إنسانية مفتوحة على المدى الطويل.
 
                 
                                        







 
                                                     
                                                     
                                                     
                                                    

