الجامعات الأمريكية في مرمى التحقيقات.. واشنطن تعيد تعريف معاداة السامية بالحرم الأكاديمي
الجامعات الأمريكية في مرمى التحقيقات.. واشنطن تعيد تعريف معاداة السامية بالحرم الأكاديمي
تشهد الجامعات الأمريكية منذ خريف 2023 واحدة من أوسع موجات التحقيقات الفيدرالية في تاريخها الحديث، إذ ارتفع عدد القضايا المفتوحة بشأن مزاعم معاداة السامية إلى مستويات غير مسبوقة عقب هجمات 7 أكتوبر والحرب الإسرائيلية على غزة، وفقاً لتقرير جديد نشرته جمعية دراسات الشرق الأوسط والجمعية الأمريكية لأساتذة الجامعات.
يُظهر التقرير أن وزارة التعليم الأمريكية فتحت في الشهرين الأخيرين من عام 2023 عدداً من التحقيقات في مزاعم معاداة السامية يفوق ما تم فتحه خلال العقدين الماضيين مجتمعين، ما يعكس تحوّلاً سياسياً وقانونياً عميقاً في طريقة تعامل واشنطن مع قضايا الخطاب حول إسرائيل في الجامعات، وفق صحيفة "الغارديان" البريطانية.
وتعتمد معظم هذه التحقيقات على العنوان السادس من قانون الحقوق المدنية لعام 1964، وهو تشريع تاريخي صُمم لحماية الطلاب من التمييز على أساس العرق أو اللون أو الأصل القومي في المؤسسات التعليمية التي تتلقى تمويلاً فيدرالياً، لكن ما كان يوماً رمزاً للعدالة العرقية أصبح اليوم، كما يصفه التقرير، "أداة مركزية لإعادة صياغة التعليم العالي بما يتماشى مع أجندات سياسية يمينية".
تقول أصلي بالي، رئيسة جمعية دراسات الشرق الأوسط، إن الباب السادس أعيد توظيفه بالكامل، مشيرة إلى أن الإدارة الحالية “استخدمته لتقييد النشاط المؤيد للفلسطينيين، وتحويل مفهوم حماية الحقوق المدنية إلى وسيلة لمعاقبة الخطاب النقدي الموجه لإسرائيل”.
وبحسب البيانات المجمعة، أطلقت الحكومة ما لا يقل عن 39 تحقيقاً جديداً في عام 2024، و38 تحقيقاً إضافياً حتى نهاية سبتمبر 2025، ما يعني أن وتيرة هذه التحقيقات لا تزال في تصاعد.
تغيير الأولويات الحقوقية
في عام 2024 وحده، فاقت قضايا “معاداة السامية” ضعف عدد التحقيقات في كل أنواع التمييز الأخرى مجتمعة، ويرى معدّو التقرير أن هذا الانحراف في الأولويات يعكس تحوّلاً جذرياً في تعريف التمييز نفسه، إذ باتت انتقادات السياسات الإسرائيلية تُعامل أحياناً كخطاب كراهية ضد اليهود.
ورغم أن الدين ليس فئة محمية في قانون الحقوق المدنية، فإن ضغوطاً مارستها منظمات مؤيدة لإسرائيل أدت إلى توسيع نطاق الحماية ليشمل الطلاب اليهود على أساس أصولهم القومية أو العرقية، وهي خطوة أقرّها الرئيس دونالد ترامب في ولايته الأولى، هذا التعديل فتح الباب لتفسيرٍ واسع لمعنى التمييز، بحيث يمكن أن تشمل الشكاوى أي خطاب أكاديمي يُنتقد إسرائيل أو الصهيونية.
بين الشكوى والتحقيق
يُظهر التقرير أن بعض التحقيقات بدأت بناءً على شكاوى فردية تفتقر إلى الأدلة، مثل بلاغات إلكترونية تتهم أساتذة بدعم حماس أو غسل أدمغة الطلاب، ففي إحدى الحالات فتحت وزارة التعليم تحقيقاً ضد جامعة كورنيل استناداً إلى شكوى مجهولة تتهم أستاذاً بنشر الكراهية، رغم غياب أي تفاصيل ملموسة، وأدى التحقيق لاحقاً إلى تجميد مليار دولار من أموال الجامعة الفيدرالية حتى انتهاء المراجعة.
وفي مثال آخر، قدم والد طالبة في جامعة شرق واشنطن شكوى مقتضبة زعم فيها أن ابنته تشعر بعدم الأمان بسبب احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين، رغم غياب أي دليل على تهديد مباشر، فتحت الوزارة تحقيقاً رسمياً.
داريل لي، الأستاذ بجامعة شيكاغو والمشارك في إعداد التقرير، اعتبر أن إنفاذ الحقوق المدنية الحكومي يُدار اليوم كما لو أنه قسم تعليقات على الإنترنت، مضيفاً أن بعض الشكاوى لا تتجاوز الثرثرة السياسية لكنها تُترجم إلى تحقيقات بيروقراطية واسعة.
حدود القانون والسياسة
يؤكد الخبراء القانونيون أن المعيار القانوني للتحقيق يجب أن يكون وجود بيئة عدائية متكررة وشديدة تعيق التعليم، لكن مع تزايد الحساسية السياسية، باتت بعض الشكاوى تُعامل كحالات تمييز حتى عندما تقتصر على احتجاجات أو منشورات سياسية.
يقول آرثر كولمان، نائب مساعد وزير سابق في مكتب الحقوق المدنية، إن الوزارة تتجاهل أحياناً متطلبات الإنصاف الإجرائي، وتوسع نطاق العقوبات لتشمل قضايا إدارية لا علاقة لها بمضمون الشكوى، ويضيف أن تدابير الانتصاف يجب أن تظل محدودة بمواجهة السلوك المزعوم، لا أن تتحول إلى وسيلة لإعادة تشكيل سياسات الجامعات.
ويكشف التقرير أن 78% من الشكاوى مصدرها منظمات مؤيدة لإسرائيل أو أفراد غير مرتبطين بالجامعات، ومن أبرز هذه المنظمات "Stand With Us" التي قادت عدة بلاغات أسفرت عن تحقيقات رسمية، وتقول المؤسسة في بيان إنها "تسعى لضمان فهم ومعالجة الهجمات على الهوية اليهودية، بما في ذلك تلك التي تستهدف الصلة بين اليهود وإسرائيل".
كما قدّم الصحفي زاكاري مارشال، شكوى بنفسه، أدت إلى فتح 16 تحقيقاً، في ظاهرة اعتبرها مراقبون دليلاً على تداخل النشاط الإعلامي بالتحريك القانوني.
تأثيرات على حرية التعبير
يُحذر باحثون من أن هذه الموجة من التحقيقات تهدد الحريات الأكاديمية في الجامعات الأمريكية فالمناخ الناتج عنها جعل كثيراً من الأساتذة والطلاب يتجنبون الحديث علناً عن الصراع في غزة أو انتقاد الحكومة الإسرائيلية خشية اتهامهم بالتمييز.
ويشير التقرير إلى أن واحدة فقط من أصل 102 شكوى متاحة للجمهور تتعلق بممارسات معادية للسامية لا ترتبط بانتقاد إسرائيل، ما يعني أن الغالبية الساحقة من القضايا تتمحور حول الخطاب السياسي وليس حول حوادث كراهية دينية فعلية.
تحت ضغط سياسي وإداري، أنشأت الحكومة الأمريكية فريق عمل وطني لمكافحة معاداة السامية، شمل عدة وكالات فيدرالية، لكن هذا التوسع البيروقراطي تزامن مع تقليص عدد موظفي مكتب الحقوق المدنية إلى النصف، وإغلاق سبعة من مكاتبه الإقليمية، ما جعل تنفيذ التحقيقات أكثر بطئاً وأقل شفافية.
تجاذب بين الأمن والحرية
تقول إليزابيث هيوستن، المتحدثة باسم البيت الأبيض، في بيان نقلته “الغارديان”: "لا مكان لمعاداة السامية في الولايات المتحدة"، مشددة على أن الرئيس ترامب ناضل بلا كلل للقضاء عليها، غير أن باحثين يرون أن مثل هذه التصريحات تخفي خلفها توجهاً سياسياً لتأطير النقاش الأكاديمي حول الشرق الأوسط ضمن خطوط أيديولوجية محددة.
أما الجامعات فتجد نفسها بين المطرقة والسندان؛ فمن جهة، تواجه ضغوطاً سياسية ومالية للحفاظ على التمويل الفيدرالي، ومن جهة أخرى، تتعرض لانتقادات داخلية من أساتذة وطلاب يرون في هذه الإجراءات تقويضاً لحرية الرأي.
حتى نهاية عام 2025، تشير المؤشرات إلى أن موجة التحقيقات لم تهدأ، بل أصبحت جزءاً من مشهد أوسع لإعادة تعريف الخطاب السياسي في الجامعات الأمريكية، ومع استمرار الجدل حول تعريف معاداة السامية واتساع نطاقه ليشمل انتقادات إسرائيل، يخشى أكاديميون أن يتحول التعليم العالي في الولايات المتحدة إلى ساحة مراقبة فكرية، حيث تُعامل المواقف السياسية كقضايا حقوق مدنية.
وبينما لم تفقد أي جامعة تمويلها بالكامل حتى الآن، إلا أن التهديد بخفض المساعدات الفيدرالية يظل سيفاً مسلطاً على المؤسسات الأكاديمية، ما يدفعها إلى تبني سياسات أكثر تحفظاً تجاه النقاشات حول فلسطين والشرق الأوسط.
في المحصلة، يكشف التقرير أن معركة معاداة السامية في الجامعات لم تعد قضية أخلاقية بقدر ما أصبحت أداة سياسية تُعيد رسم حدود الخطاب العام في أمريكا، فبينما تستهدف القوانين حماية الطلاب من التمييز، يبدو أن استخدامها الحالي يهدد واحدة من أقدم القيم الجامعية: حرية التفكير والنقاش.










