العنف الرقمي يطارد المرأة العربية.. تقرير أممي يكشف تصاعد الانتهاكات وآثارها النفسية المدمرة
العنف الرقمي يطارد المرأة العربية.. تقرير أممي يكشف تصاعد الانتهاكات وآثارها النفسية المدمرة
بدأت هيئة الأمم المتحدة للمرأة مع انطلاق حملة ستة عشر يوما لمناهضة العنف ضد النساء والفتيات في الكشف عن واحد من أخطر أشكال الانتهاكات التي تتعرض لها النساء في العصر الحديث، فقد أصدرت الهيئة تقريرا معمقا بعنوان (العنف الرقمي في الدول العربية نظرة عامة والممارسات القانونية الجيدة)، استند إلى دراسة إقليمية أُنجزت عام 2022، وسلط الضوء على اتساع ظاهرة العنف الرقمي وارتباطها المباشر بتسارع التحول التكنولوجي وانتشار المنصات الرقمية في مختلف أنحاء المنطقة.
أفادت شبكة "سي إن إن" الجمعة بأن التقرير يحاول في ما يقارب مئة صفحة رسم صورة دقيقة للعنف الذي تتعرض له النساء عبر الإنترنت، وخاصة في بيئة عربية تتفاوت فيها مستويات الوعي القانوني والتقني، وبينما كان الفضاء الرقمي في بداياته مساحة لحرية التعبير وتبادل المعرفة، تحول اليوم بالنسبة لكثير من النساء إلى ساحة خوف وفقدان أمان، تتعدد فيها أشكال الانتهاكات من التهديدات إلى الابتزاز إلى التشهير ونشر الصور وتزييف الحقائق والقرصنة والتنمر.
العنف الرقمي وتنامي الشعور بعدم الأمان
يشير التقرير إلى أن نسبة 49 في المئة من مستخدمات الإنترنت في المنطقة العربية أفدن بأنهن يشعرن بعدم الأمان من التحرش الرقمي، وهذا الشعور المتزايد بالتهديد يعكس حالة عامة من انعدام الثقة في الفضاء الإلكتروني الذي يفترض أن يكون مفتوحا وآمنا للجميع، ويكشف التقرير أن نسبة 44 في المئة من النساء اللائي تعرضن للعنف الرقمي واجهنه أكثر من مرة، ما يعني أن التجربة لا تكون غالبا حادثة عابرة بل نمطا متكررا يلاحق الضحايا عبر منصات وتطبيقات مختلفة.
أثر نفسي عميق لا ينتهي عند الشاشة
لا يكتفي العنف الرقمي بإلحاق الضرر داخل حدود الإنترنت، بل يتجاوزها إلى الحياة اليومية للضحايا من خلال انعكاسات نفسية واجتماعية طويلة الأمد، تظهر البيانات أن نسبة 35 في المئة من النساء اللائي تعرضن للإساءة الرقمية أكدّن أن التجربة سببت لهن حزنا شديدا أو أعراضا اكتئابية، كما قالت نسبة 12 في المئة إنهن راودتهن أفكار انتحارية بعد تعرضهن للعنف، في مؤشر صادم على حجم الضغط النفسي الذي قد تتسبب به الإساءة الرقمية حتى دون تواصل جسدي مباشر أو وجود المعتدي في الواقع.
وتظهر التجارب الواردة في التقرير أن النساء غالبا ما يواجهن هذا النوع من العنف بمفردهن، إذ تشعر كثيرات بالخجل أو الخوف من إبلاغ العائلة أو الجهات المعنية، وفي بعض الحالات، يتطور الضغط النفسي إلى انسحاب كامل من العالم الرقمي، حيث قامت واحدة من كل خمس نساء تقريبا بحذف حسابها أو تعطيله استجابة مباشرة للعنف الواقع عليها، وفقدت أخريات الثقة في قدرتها على الوجود الحر عبر الإنترنت فلجأن إلى تقليص حضورهن الرقمي أو الامتناع عن نشر آرائهن أو تطبيق رقابة ذاتية شديدة على كل ما يكتبنه أو يشاركنه.
هذا الانسحاب الإجباري من الفضاء الرقمي يعني تراجعا في فرص النساء في التعليم والعمل والتعبير والمشاركة العامة، وهو ما يراه التقرير انتهاكا مزدوجا للحقوق، إذ يجمع بين ممارسة العنف والحرمان من وسائل التواصل الحديثة التي أصبحت جزءا أساسيا من الحياة الاجتماعية والمهنية.
من هم الجناة وما دوافعهم
لا يكتفي التقرير برصد أو توثيق الانتهاكات، بل يحاول فهم طبيعة المعتدين ودوافعهم، حيث تظهر البيانات أن الرجال من أصحاب المستويات التعليمية المتدنية هم الأكثر ميلا لارتكاب العنف الرقمي، ما يشير إلى ارتباط الظاهرة بمزيج من الجهل التقني والثقافة الاجتماعية التي تنظر إلى المرأة بوصفها هدفا سهلا للعنف.
وتكشف شهادات النساء أن نحو 60 في المئة من المعتدين كانوا مجهولين، ما يعكس قدرة الفضاء الرقمي على تمكين الجناة من إخفاء هوياتهم واستخدام ذلك غطاءً لارتكاب الاعتداءات بلا خوف من العقاب، إلا أن المدهش أن نسبة 24 في المئة من المعتدين كانوا من الأصدقاء المقربين، فيما كان واحد من كل خمسة تقريبا من زملاء العمل أو الدراسة، أما أفراد العائلة فمثّلوا نسبة 14 في المئة، بينما كان الشركاء السابقون خلف 13 في المئة من حالات العنف، ما يبرز اتساع دائرة الخطر لتشمل علاقات يفترض أن تقوم على الثقة أو المعرفة المباشرة.
عواقب اجتماعية تتجاوز الأفراد
إن انتشار العنف الرقمي لا يهدد النساء فحسب، بل يهدد قيم المجتمعات العربية ككل. فالتأثير المباشر لهذا العنف ليس فقط في الألم النفسي أو الضرر الاجتماعي الذي يقع على الضحية، بل في تعطيل دور النساء في الفضاء العام، وإضعاف قدرتهن على المشاركة في النقاشات ومواقع العمل والأنشطة التعليمية.
ويُحذِّر التقرير من أن استمرار هذه الظاهرة دون تدخل فعال من شأنه أن يرسخ ثقافة الصمت والخوف، ويمنح مرتكبي العنف شعورا بالإفلات من العقاب، خاصة في ظل محدودية التشريعات التي تعالج الجرائم الرقمية بوضوح في كثير من الدول العربية.
الحاجة إلى استراتيجيات حماية
يشدد التقرير على ضرورة تبني سياسات وطنية شاملة للتعامل مع العنف الرقمي، تشمل تطوير تشريعات واضحة، وتدريب الجهات القضائية والأمنية، وإنشاء منصات آمنة للإبلاغ عن الانتهاكات، كما يدعو إلى تعزيز الوعي الرقمي لدى النساء والفتيات، بما في ذلك معرفة أدوات الخصوصية، وآليات التبليغ، وطرق التعامل مع التهديدات الرقمية دون الوقوع في فخ الابتزاز أو الانعزال.
يُعد العنف الرقمي أحد أسرع أشكال العنف ضد النساء انتشارا في العالم خلال العقد الأخير، وقد أسهم الانتشار الواسع للهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي في تسهيل وصول المعتدين إلى ضحاياهم، مع قدرة كبيرة على إخفاء الهوية وتجاوز الحدود الجغرافية، وفي المنطقة العربية تتفاوت التشريعات المتعلقة بالجرائم الإلكترونية بين دولة وأخرى، حيث تمتلك بعض الدول قوانين متقدمة نسبيا بينما تفتقر دول أخرى إلى منظومة قانونية متكاملة قادرة على محاسبة المعتدين أو حماية الضحايا.
وتشير دراسات دولية إلى أن النساء في العالم العربي يواجهن تحديات مضاعفة بسبب الأعراف الاجتماعية التي تضع قيودا على حريتهن الرقمية وتجعل ضغوط العائلة والمجتمع جزءا من دوامة العنف، وعلى الرغم من جهود الحكومات والمنظمات الحقوقية، لا تزال الحاجة ملحة إلى تطوير السياسات الوقائية وتعزيز الثقافة الحقوقية الرقمية للحد من هذا النوع من العنف ومنع آثاره المدمرة على النساء والمجتمع.
يذكر أن حملة الستة عشر يوما لمناهضة العنف ضد النساء والفتيات تشكّل مناسبة عالمية سنوية ترفع فيها الحكومات والمؤسسات الحقوقية ومنظمات المجتمع المدني صوتها ضد مختلف أشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي، وتنطلق الحملة في الخامس والعشرين من نوفمبر، بمناسبة اليوم الدولي للقضاء على العنف ضد المرأة، وتستمر حتى اليوم العالمي لحقوق الإنسان في العاشر من ديسمبر، وذلك في رسالة رمزية تؤكد أن سلامة النساء هي جزء لا يتجزأ من حقوق الإنسان الأساسية، وعلى مدى هذه الفترة، تُنظم المبادرات التوعوية والأنشطة المجتمعية وحملات الضغط لصياغة تشريعات أكثر حماية للنساء.
كما يجري تسليط الضوء على قصص الناجيات وتحدياتهن، والدعوة إلى توفير منظومات دعم فعالة تشمل الحماية القانونية والرعاية الصحية والنفسية، وتكتسب الحملة أهمية متزايدة في المنطقة العربية، حيث تتقاطع أزمات العنف الرقمي والاقتصادي والمنزلي مع سياقات اجتماعية وثقافية معقدة، ما يجعل هذه المناسبة فرصة سنوية لتجديد الالتزام السياسي والمجتمعي بوضع حد للعنف وتعزيز بيئة آمنة تتيح للنساء والفتيات المشاركة الكاملة في الحياة العامة والرقمية على حد سواء.











