بعد رفع العقوبات.. السوريون يستقبلون قرار إلغاء "قيصر" بآمال كبيرة تحت واقع اقتصادي متأزم
بعد رفع العقوبات.. السوريون يستقبلون قرار إلغاء "قيصر" بآمال كبيرة تحت واقع اقتصادي متأزم
في مشهد لم تعهده المدن السورية منذ سنوات طويلة، خرج آلاف السوريين الخميس إلى ساحات دمشق وحمص واللاذقية وحماة للاحتفال بتصويت مجلس النواب الأمريكي لصالح إلغاء قانون قيصر الذي فرض على سوريا واحدة من أشد العقوبات الاقتصادية التي عاشتها خلال العقد الأخير، ولم يكن القرار الذي مررته الأغلبية في مجلس النواب حدثا سياسيا محضا، بل تحول فورا إلى مشهد إنساني واسع لناس يبحثون عن بارقة أمل في واقع اقتصادي خانق وتشوهات خلفتها الحرب والحصار والعقوبات.
لم ينتظر السوريون طويلا ليعلنوا موقفهم من التطور الجديد، وكذلك فعلت الحكومة السورية، فقد وصف وزير الخارجية أسعد الشيباني تصويت مجلس النواب بأنه إنجاز تاريخي وانتصار لإرادة السوريين، معتبرا أن هذه الخطوة تعكس إدراكا متزايدا داخل المؤسسات الأمريكية بضرورة إنهاء مرحلة العقوبات الطويلة التي فاقمت معاناة السوريين في الغذاء والدواء والطاقة وفرص العمل، وقالت وزارة الخارجية في بيان رسمي إن القرار يمثل محطة محورية في إعادة بناء الثقة وفتح مسار جديد للتعاون الاقتصادي والسياسي، وفق موقع تلفزيون سوريا.
احتفالات في المدن السورية
كانت ساحة الأمويين في دمشق وفي ساعات المساء الأولى مسرحا لاحتفالات شعبية رفع فيها المواطنون الأعلام ورددوا هتافات تعكس فرحة متراكمة جاءت بعد سنوات من الإحباط، وفي حمص اتجهت الحشود نحو ساحة الساعة التي اعتادت مشاهد مختلفة في سنوات الحرب، لكنها هذه المرة بدت كما لو أنها تستعيد نبض المدينة القديم، وفي اللاذقية وحماة سارت مسيرات عفوية جابت الشوارع الرئيسة، في ما وصفه السكان بأنه أول شعور جماعي بالتخفف من عبء اقتصادي جثم على صدورهم لسنوات.
يدرك السوريون أن إنهاء العقوبات لن يكون فورا، وأن الأثر على الاقتصاد السوري لن يظهر بين ليلة وضحاها، لكن المشاعر العامة التي رصدتها وسائل الإعلام المحلية تعكس رغبة شعبية في استعادة دورة الحياة الطبيعية، فقد تسببت العقوبات، إلى جانب الحرب والنزوح وفقدان البنية التحتية، في نقص مستمر في المواد الأساسية وارتفاع كبير في الأسعار وتراجع القدرة الشرائية وتوقف أغلب المشاريع الاستثمارية، لذلك بدا رفع العقوبات المحتمل نافذة يمكن أن تسمح بانتعاش اقتصادي محدود ثم تدريجي في حركة الاستيراد والمستلزمات الطبية والمواد الخام.
قرار أمريكي وتفاصيله
صوت مجلس النواب الأمريكي ضمن موازنة الدفاع لعام 2026 على مادة خاصة تقضي بإلغاء قانون قيصر، وأكد محمد علاء غانم رئيس الشؤون السياسية في المجلس السوري الأمريكي أن التصويت جاء بنتيجة 312 صوتاً مؤيداً مقابل 112 صوتاً معترضاً، ما يعكس تحولا واضحا في المزاج السياسي داخل الكونغرس تجاه الملف السوري، وسوف ينتقل مشروع القانون إلى مجلس الشيوخ للتصويت عليه خلال الأسبوع المقبل، وفي حال إقراره يحال إلى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للتوقيع النهائي.
شروط إلغاء العقوبات
ورغم الحماسة التي أثارها القرار، فإن النص الأمريكي يتضمن مجموعة شروط يجب على سوريا الالتزام بها كي يصبح رفع العقوبات نافذا بشكل كامل. فالمشروع ينص على أن يقدم الرئيس الأميركي تقريرا أوليا للكونغرس خلال 90 يوما، ثم تقارير دورية كل 180 يوما على مدى 4 سنوات، وتشمل الشروط مجموعة واسعة من الالتزامات، أبرزها مكافحة التنظيمات الإرهابية، احترام حقوق الأقليات، الامتناع عن أي عمل عسكري أحادي ضد دول الجوار، مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وملاحقة الجرائم المرتكبة في عهد النظام السابق، إضافة إلى مكافحة إنتاج المخدرات الذي تحول في السنوات الماضية إلى تحد أمني إقليمي.
ويوضح المشروع أنه في حال عدم استيفاء سوريا لهذه المعايير في فترتين متتاليتين، يمكن إعادة فرض عقوبات محددة على جهات معينة، وهذا الشرط يضع القرار في إطار عملية مراقبة وتقييم مستمرين، ما يعني أن رفع العقوبات ليس نهائيا بل مشروط بمسار سياسي وأمني طويل.
انعكاسات أولية واحتمالات مستقبلية
تعليق العقوبات لمدة 180 يوما والذي أعلنته وزارة الخزانة الأمريكية في 10 نوفمبر الماضي كان مقدمة للقرار الحالي، لكنه لم يكن كافيا لتغيير المشهد الاقتصادي، إلا أن التصويت الأخير منح السوريين أملا أكبر بأن مرحلة العقوبات الشاملة على سوريا قد وصلت إلى نهايتها، ويتوقع أن يؤدي رفع العقوبات إلى تحسين حركة الاستيراد، وتسهيل وصول المواد الأساسية، وتمكين القطاعات الطبية والصناعية من استعادة جزء من قدرتها على العمل. كما يمكن للقرار أن يحرك ملفات إعادة الإعمار المجمدة منذ سنوات.
ومع ذلك، لا يخلو الأمر من تحديات فالبنية التحتية المتضررة، والنزوح الواسع، وغياب الاستقرار السياسي، وصعوبة استعادة الثقة الدولية، كلها عوامل قد تعيق تحقيق الفوائد الكاملة لرفع العقوبات.
بين الفرح الشعبي والواقع الميداني
في شوارع دمشق وحمص واللاذقية وحماة، عبّر المواطنون عن سعادتهم برفع العلم السوري والهتاف بفرح نادر، غير أن خلف هذه المشاهد تختبئ حقيقة صعبة عاشتها الأسر السورية لسنوات، وأزمات متعددة تشمل نقص الأدوية، وانقطاع الكهرباء، وارتفاع أسعار الوقود، وانهيار القدرة الشرائية، وتراجع الخدمات الصحية، وغياب فرص العمل.
ويرى باحثون أن الاحتفالات الشعبية لم تكن مجرد تعبير عن موقف سياسي، بل كانت تنفيسا لجمهور يعيش تحت ضغط اقتصادي وإنساني كبير. وقد يعكس ذلك رغبة مجتمع أنهكته الحرب في رؤية تغيير حقيقي يمكّنه من استعادة أبسط مقومات الحياة.
سوريا أمام منعطف جديد
يمثل قرار مجلس النواب الأمريكي محطة مفصلية في مسار الأزمة السورية، لكنه ليس نهاية الطريق، فالتحول يتطلب توافقا سياسيا أوسع، وإعادة بناء الثقة بين الأطراف المختلفة، وتحسين العلاقات الخارجية، خصوصا مع الدول المؤثرة في الملف السوري. أما على الصعيد الداخلي، فإن الجهود الحكومية لتعزيز الإنتاج المحلي، وتوفير المواد الأساسية، وتثبيت سعر العملة، ستكون عناصر أساسية في ترجمة أي رفع للعقوبات إلى واقع يلمسه المواطن.
يذكر أن الكونغرس الأمريكي أقر قانون قيصر في 11 ديسمبر 2019 بهدف معاقبة أركان النظام السوري على الجرائم المرتكبة خلال سنوات الحرب، استند القانون إلى عشرات آلاف الصور التي سرّبها المصور العسكري فريد المذهان الملقب بقيصر والتي وثقت التعذيب والانتهاكات بحق المدنيين، وفرض القانون قيودا واسعة على التعاملات المالية والتجارية والطاقة وإعادة الإعمار، ومنذ ذلك الحين واجه الاقتصاد السوري شللا شبه كامل في قطاعات حيوية، إلى أن صوت مجلس النواب في ديسمبر 2025 لصالح إلغاء القانون، في خطوة اعتبرت الأكبر منذ بدء تطبيق العقوبات على سوريا.
ومن شأن إلغاء القانون أن يمهد الطريق لعودة الاستثمارات والمساعدات الأجنبية لدعم الحكومة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع، التي تأسست في مارس 2025.











