تكلفة المعيشة تدفع العائلات الشابة للنزوح من لندن.. ماذا يعني ذلك للمجتمعات والمدارس؟

تكلفة المعيشة تدفع العائلات الشابة للنزوح من لندن.. ماذا يعني ذلك للمجتمعات والمدارس؟
لندن

 

 

كشف تحليل حديث لمعهد السياسات التعليمية في بريطانيا عن انخفاض أعداد طلاب المرحلة الابتدائية في لندن بوتيرة لافتة خلال السنوات الخمس الأخيرة، مع تسجيل تسع مناطق ضمن أكبر الانخفاضات على مستوى إنجلترا، بينها ويستمنستر ولامبيث وساوثوارك وهاكني وكامدن.

 في ويستمنستر وحدها سجلت المدارس الابتدائية انخفاضاً يقارب 16 في المئة بين العامين الدراسيين 2020/ 2021 و2024/ 2025، وسجّلت ساوثوارك أكثر من 12 في المئة منسوب انخفاض مع إغلاق ست مدارس ابتدائية خلال الفترة نفسها، وفق موقع "The Standard" وهذه الأرقام توضح أن الظاهرة ليست محلية معزولة بل نمط مركزي في العاصمة يتطلب قراءة تحليلية لبحث الأسباب والعواقب. 

توقعات وطنية ومقارنة زمنية

لا يقتصر التأثير على لندن فحسب، تتحرك التقديرات الوطنية في اتجاه هبوط أوسع في أعداد التلاميذ؛ تشير التنبؤات إلى احتمال انخفاض إجمالي أعداد تلاميذ إنجلترا بمقدار نحو 400 ألف تلميذ بحلول نهاية العقد، بما في ذلك نحو 150 ألف تلميذ في المرحلة الابتدائية مقارنة بعام 2019، وتعيد هذه التوقعات تعيد رسم خرائط التخطيط المدرسي والتمويل، وتضع أنظمة القبول والتوزيع أمام صعوبات مستقبلية ملموسة. 

أسباب النزوح وتغير مواقع السكن

يؤكد المعهد أن التراجع لا يختزل في انخفاض معدلات المواليد وحدها؛ تدفع العوامل الاقتصادية والاجتماعية عائلات شابة إلى مغادرة لندن أو تأجيل الإنجاب أو اللجوء إلى بدائل تعليمية خاصة أو هجينة، وتعزز تكلفة المعيشة المرتفعة وإتاحة السكن الصالح وارتفاع الإيجارات اتجاه خروج الأسر بحثاً عن مساحات معيشية أرحب وتكاليف أقل، بينما تسهم الفوارق في ترتيب جودة المدارس بين دوائر العاصمة في تحفيز هجرة التعليم داخل وخارج لندن، وتشير تقارير مستقلة كذلك إلى زيادة أعداد الأسر التي تعيش في سكن مؤقت أو تواجه خطر التشرد، ما يزيد هشاشة بقائها في المدن الكبرى.

تداعيات على المدارس والكوادر

انخفاض أعداد التلاميذ يعني تراجع موارد المدارس المالية لأن نماذج التمويل تربط الدعم بعدد المسجلين، وهذا الضغط يطال خصوصاً المدارس الصغيرة التي تواجه في بعض الحالات خطر الإغلاق أو الدمج أو تحويل مساحاتها لوظائف أخرى، مع فقد محتمل للوظائف التعليمية والدعم الإداري، و يحذر المعهد من أن خفض التمويل أو إغلاق المدارس من دون تخطيط قد يقود إلى تآكل الشبكة المحلية للخدمات التعليمية ويقلص فرص التعلم في المستوى الابتدائي، ما يفاقم الفجوات التعليمية والاجتماعية على المدى المتوسط داخل بريطانيا

ردود المنظمات النقابية والخبراء التربويين

نقابات قادة المدارس حذّرت من أثر هذه الانخفاضات على قدرة المدارس الصغرى على البقاء، داعية إلى آليات تمويل مرنة تحمي استمرارية الفصول والكوادر، قادة النقابات يشددون على ضرورة أن تتماشى سياسات التمويل مع التغيرات الديموغرافية لمنع فقدان الخبرات التعليمية وإتاحة فصول أصغر ودعم أكثر تركيزاً للأطفال المعرضين للخطر، وتعكس تصريحات النقابات قلقاً مهنياً من أن الاستجابة السوقية وحدها لن تحل مشكلات التمويل والبنية التحتية. 

ردود منظمات المجتمع المدني وحقوق الطفل

جمعيات الإغاثة وحقوق الطفل ودوائر السكن أكدت أن أسباب النزوح لا تقتصر على حرية الاختيار بل تتداخل مع أزمات السكن والفقر، وتحذر منظمات متخصصة في الإسكان من ارتفاع أعداد الأسر التي تعتمد السكن المؤقت أو لا تستطيع تأمين مسكن مناسب، وهو عامل ضاغط يدفع الأسر للابتعاد عن العاصمة، كما تشير منظمات الطفولة إلى أن أي انقطاع في الوصول المنتظم إلى التعليم الابتدائي يمثل خطراً على حقوق الطفل في التعلم والرفاه، وتستند إلى الالتزامات التي تكفلها اتفاقية حقوق الطفل لتأكيد واجب الدولة في ضمان الوصول للتعليم دون تمييز. 

مواقف أممية وقانونية

تؤكد المبادئ الدولية، وفي مقدمها اتفاقية حقوق الطفل، أن للدولة التزاماً بضمان تعليم ابتدائي مجاني وإلزامي وتحقيق مبدأ أفضل مصالح الطفل في سياسات التخطيط والإسكان والتعليم، وهذا البُعد القانوني يجعل من مسؤولية الحكومة ضمان أن إجراءات مواجهة انخفاض الأعداد لا تُفضي إلى حرمان فئات معينة من تعليمها أو إلى تعزيز التفاوتات الإقليمية، وأوضح عدد من أصحاب الاختصاص أن الحلول التقنية يجب أن ترافقها سياسات إسكان مركزة ودعم للعائلات المحتاجة

استجابة الحكومة والسياسات المقترحة

أعلنت الحكومة عن زيادة إجمالية في موازنة المدارس في إطار مراجعة الإنفاق، مع خطة لرفع دعم المدارس إلى أعلى مستوى مسجل بحلول 2028/ 2029، وهو ما يوفر هامشاً مالياً للتعامل مع بعض الضغوط التشغيلية، كما خصصت وزارة التعليم مبالغ لبرامج تحويل المساحات المدرسية الفارغة إلى دور حضانة وروضات بهدف توفير بدائل خدماتية للأسر وإعادة استخدام البنية المدرسية الفارغة؛ وخصصت دفعة أولية بقيمة 37 مليون جنيه لتجهيز 300 مدرسة وخلق آلاف الأماكن في وحدات رعاية ما قبل المدرسة، وتهدف هذه الإجراءات إلى التخفيف المؤقت من آثار الانخفاض، لكنها لا تعالج بالضرورة جذور مشكلة السكن وارتفاع تكاليف المعيشة التي تدفع الأسر إلى المغادرة. 

مآلات قصيرة ومتوسطة الأمد

على المدى القصير تواجه السلطات المحلية خيارات صعبة منها إبقاء مدارس متقزمة دون موارد وهو ما قد يضع جودة التعليم في خطر، بينما إغلاق مدارس قد يكلف المجتمعات المحلية الكثير ويزيد أعباء التنقل على الأسر الهشة، وعلى المدى المتوسط إذا استمرت الحركة السكانية، ستحتاج لندن إلى سياسات إسكانية جريئة لاستعادة التوازن السكاني، وتحفيز بقاء الأسر الشابة، وربما مراجعات أوسع لنظام تمويل التعليم ليفصل بشكل أقل مباشرة بين البقاء المالي للمدرسة وعدد المسجلين فقط.

خلاصة موجزة وتوصيات قابلة للقياس

الواقع الجديد في لندن يتطلب مقاربة متعددة القطاعات تشمل دمج سياسات الإسكان والتوظيف والخدمات الأسرية مع تخطيط الموارد التعليمية، والتوصيات العملية تتضمن: تصميم نماذج تمويل مرنة للمدارس الصغيرة، وبرامج إسكان مدعومة تستهدف الأسر الشابة في العاصمة، وتوسيع خدمات الحضانة والنهار باستخدام المساحات المدرسية الفارغة مع ضمان شراكات مع مقدمي الرعاية المحليين، واستراتيجيات ترويج للمدن تناسب الأسر الشابة، كما ينبغي أن تُصاغ هذه السياسات مع التزام واضح بحقوق الطفل وقياس أثرها سنوياً من خلال مؤشرات حضور وتسجيل وتحسن مؤشرات التعلم.

لندن شهدت ارتفاعاً في أعداد التلاميذ حتى أواخر العقد الماضي، قبل أن تتبدل الاتجاهات بفعل عوامل اقتصادية وديموغرافية، وتزايد الضغوط السكنية والتغير في أنماط العمل والسفر، وجزء من تحولات ما بعد الجائحة والبريكست، كل ذلك أسهم في تسريع انتقال الأسر الشابة أو تغيير اختياراتها التعليمية، ما جعل العاصمة واحدة من بؤر الانخفاض في تسجيل التلاميذ على مستوى البلاد. 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية