إنذار من اليونيسف.. انخفاض المساعدات يفتح باب المجاعة والأمية أمام ملايين الأطفال

إنذار من اليونيسف.. انخفاض المساعدات يفتح باب المجاعة والأمية أمام ملايين الأطفال
آثار الجوع في أطفال أفارقة

أطلقت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) تحذيراً بالغ الخطورة بشأن التراجع الحاد في التمويل العالمي المخصص للبرامج الإنسانية والتنموية، مؤكدة أن الانخفاض المتوقع الذي قد يتجاوز 20% هذا العام يشكل تهديداً مباشراً لحياة ومستقبل ملايين الأطفال في مختلف أنحاء العالم.

وقالت المديرة التنفيذية لليونيسف كاثرين راسل، في تصريحات نقلتها شبكة التحرير الألمانية (دويتشلاند - آر إن دي)، إن "الخفض العالمي في حجم مساعدات التنمية والإغاثة بدأ يؤثر فعلياً في ميزانية المنظمة"، مشيرة إلى أن "كل دولار مفقود يعني فرصة ضائعة لإنقاذ طفل من المرض أو الجوع أو التسرب المدرسي".

وتعكس تصريحات كاثرين راسل حالة القلق المتنامي داخل المنظومة الإنسانية الدولية مع استمرار تقلص الإسهمات الطوعية من الدول المانحة والمؤسسات الممولة للبرامج الأممية، وسط عالم يزداد اضطراباً بفعل الحروب وتغير المناخ والأزمات الاقتصادية المتلاحقة.

أسباب الأزمة

تأتي أزمة التمويل الإنساني في سياق عالمي مضطرب تتزاحم فيه الأزمات على الموارد المحدودة. فمنذ عام 2020، شهدت الموازنات الدولية للمساعدات الخارجية انكماشاً تدريجياً، نتيجة التداعيات الاقتصادية لجائحة كوفيد-19، وارتفاع مستويات الدين العام، وازدياد الإنفاق العسكري بسبب النزاعات في أوكرانيا والشرق الأوسط وإفريقيا.

وفي يوليو الماضي، أعلن وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو عن توقف رسمي لبعض المساعدات الخارجية المقدمة عبر الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، إحدى أبرز أدوات التمويل الإنساني في العالم، كما خفضت ألمانيا ميزانيتها الإنمائية لأسباب تتعلق بتوفير النفقات الداخلية، وهو ما تبعته دول أوروبية أخرى أعلنت مراجعة التزاماتها التمويلية بسبب التضخم وارتفاع تكاليف الطاقة.

وبحسب تقديرات البنك الدولي، تراجعت نسبة المساعدات الإنمائية الرسمية المقدمة من الدول الغنية إلى ما هو أقل من 0.28% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2024، وهو أدنى مستوى منذ أكثر من عقد، مقارنة بنسبة 0.33% عام 2018.

هذا التراجع يعني أن المنظمات الإنسانية تواجه فجوة تمويلية قد تتجاوز 15 مليار دولار سنوياً، ما يهدد بوقف أو تقليص عدد كبير من المشاريع الحيوية في مجالات الصحة والتعليم والمياه والتغذية.

تداعيات على الأطفال

تحذر اليونيسف من أن انخفاض التمويل لن ينعكس فقط في تراجع الخدمات، بل سيتسبب في "خسائر بشرية لا يمكن تعويضها"، فبحسب تقاريرها الأخيرة، يعيش اليوم أكثر من 400 مليون طفل في مناطق نزاع حول العالم، ويعتمد نصفهم تقريباً على المساعدات الإنسانية للبقاء على قيد الحياة.

في حال تحقق خفض التمويل بنسبة 20%، تتوقع المنظمة أن يتعرض نحو 25 مليون طفل إضافي لخطر سوء التغذية الحاد، وأن يُحرم أكثر من 30 مليون آخرين من التعليم الأساسي، في حين تُقلّص برامج التطعيم في نحو 40 دولة، ما يهدد بعودة أمراض كشلل الأطفال والحصبة.

كما ستتأثر برامج المياه والصرف الصحي التي تخدم أكثر من 70 مليون شخص في مناطق الأزمات، وهو ما قد يؤدي إلى تفشي الأوبئة في المخيمات ومناطق الكوارث الطبيعية.

وأكدت كاثرين راسل أن "اليونيسف تسعى إلى الاستفادة القصوى من كل دولار"، لكنها شددت على أن "الأطفال سيعانون حتماً إذا استمر هذا الاتجاه".

دق ناقوس الخطر

الأمم المتحدة بدورها أبدت قلقاً بالغاً من تراجع التمويل الدولي، وقال المتحدث باسم الأمين العام، ستيفان دوغاريك، إن "النظام الإنساني العالمي يواجه لحظة اختبار قاسية"، مضيفاً أن "الطلب على المساعدات الإنسانية بلغ مستويات غير مسبوقة في التاريخ المعاصر، في حين يتراجع التمويل بوتيرة مقلقة".

أما برنامج الأغذية العالمي فأشار إلى أنه اضطر في عام 2024 إلى خفض الحصص الغذائية في أكثر من 15 دولة، منها اليمن وسوريا والسودان وأفغانستان، بسبب نقص التمويل، وقالت المديرة التنفيذية للبرنامج سيندي ماكين إن "قرارات تقليص الحصص لا تتعلق بسوء الإدارة، بل بندرة الأموال".

من جانبه، وصف مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، هذا الانكماش في التمويل بأنه "أزمة تضامن عالمية"، مؤكدة أن "الحق في الحياة والغذاء والتعليم لا يمكن أن يكون رهينة حسابات الموازنات والسياسات الداخلية للدول الغنية".

ردود فعل المنظمات الحقوقية

المنظمات الحقوقية والإنسانية عبّرت عن قلقها من تداعيات الأزمة على الفئات الأكثر هشاشة، فقد قالت منظمة إنقاذ الطفولة إن "انخفاض التمويل يعني ببساطة أن المزيد من الأطفال سيموتون جوعاً أو ينامون دون دواء أو تعليم".

واعتبرت أوكسفام أن "العالم يعيش مفارقة قاسية، فبينما يتضاعف الإنفاق العسكري، يتقلص الإنفاق الإنساني"، وأشارت المنظمة إلى أن الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي رفعت موازناتها الدفاعية بمعدل 10% في العام الماضي، في حين خفضت إسهاماتها في صناديق الإغاثة بنحو 15%.

كما أصدرت الشبكة الدولية للعمل الإنساني بياناً دعت فيه الحكومات المانحة إلى الالتزام بتعهداتها السابقة وفق "اتفاقية أديس أبابا" لعام 2015 بشأن تمويل التنمية التي تنص على تخصيص 0.7% من الناتج المحلي الإجمالي للدول المتقدمة للمساعدات الرسمية، مؤكدة أن الالتزام بهذا الهدف كفيل بتغطية الفجوة التمويلية الحالية.

القانون والمسؤولية الأخلاقية

من منظور القانون الدولي، يمثل ضمان التمويل الإنساني جزءاً من الالتزامات الأخلاقية والقانونية للدول الموقعة على المواثيق الدولية، فالعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية يلزم الدول بالعمل الجماعي لضمان الحق في التعليم والغذاء والصحة، كما تؤكد اتفاقية حقوق الطفل لعام 1989 على واجب المجتمع الدولي في توفير الدعم اللازم لتحقيق هذه الحقوق في البلدان النامية.

ويرى خبراء القانون الإنساني أن التخلي عن تمويل البرامج الإنسانية لا يعد فقط إخفاقاً سياسياً، بل يمكن أن يُفسّر بوصفه إهمالاً يؤدي إلى نتائج تمس الحق في الحياة والكرامة الإنسانية.

تاريخياً، طالما شكل التمويل الإنساني العالمي ركيزة أساسية في مواجهة الأزمات الكبرى، فبعد الحرب العالمية الثانية، أسهمت برامج الأمم المتحدة في إعادة إعمار أوروبا وآسيا، وفي مطلع الألفية، تضاعفت ميزانيات المساعدات استجابةً لأزمات مثل تسونامي إندونيسيا عام 2004 ومجاعة القرن الإفريقي عام 2011.

لكن السنوات الأخيرة شهدت انعطافاً حاداً في هذا المسار، إذ بدأت موجة من "الانكفاء الوطني" تكتسح الدول المانحة، مدفوعة بصعود النزعات الشعبوية والأولويات الداخلية، ووفقاً لتقرير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، فإن العام 2023 كان الأسوأ تمويلاً في تاريخ العمل الإنساني، حيث لم تتجاوز نسبة التمويل المقدم سوى 42% من إجمالي الاحتياجات المعلنة عالمياً.

عندما تتراجع الإنسانية

يشير محللون أمميون إلى أن استمرار هذا الاتجاه سيخلق فجوة تنموية يصعب تعويضها، فكل سنة من التراجع في التمويل الإنساني تعني خسارة جيل كامل من الأطفال للفرص التعليمية والصحية.

وتشير تقديرات منظمة العمل الدولية إلى أن 160 مليون طفل ما زالوا يعملون في ظروف قاسية، في حين يواجه نحو 50 مليون طفل خطر النزوح بسبب النزاعات والكوارث الطبيعية.

كما أن تقليص التمويل يهدد بزيادة معدلات الزواج المبكر، وارتفاع نسب الفقر بين الأسر التي تعتمد على المساعدات، ما يفاقم دوامة التهميش والحرمان.

وفي تقرير حديث للبنك الدولي، حذر الخبراء من أن الأطفال الذين يفقدون فرص التعليم اليوم سيشكلون "جيل الدخل المفقود"، إذ سيؤدي غياب المهارات إلى خفض إنتاجية القوى العاملة العالمية بنسبة قد تصل إلى 10% بحلول عام 2050.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية