«القبعات الزرق» في قفص الاتهام.. ربع قرن من الانتهاكات الجنسية واستغلال الأطفال
«القبعات الزرق» في قفص الاتهام.. ربع قرن من الانتهاكات الجنسية واستغلال الأطفال
على مدى ما يقارب ربع قرن، أثيرت قضايا متكررة بشأن الاستغلال والاعتداء الجنسي الذي ارتكبه بعض موظفي الأمم المتحدة أو جنود بعثات حفظ السلام ضد الأطفال في إفريقيا.
واليوم، تعود هذه القضية إلى الواجهة مجددًا مع مناقشات أممية ممتدة حتى أبريل المقبل، في ظل جهود لتعزيز الإصلاحات، بدءًا من تبني سياسة "عدم التسامح مطلقًا"، وصولًا إلى وضع حقوق الضحايا وكرامتهم في صميم الاستجابات الأممية.
في حديثهم إلى "جسور بوست"، أكد خبراء حقوقيون أن الفتيات القاصرات هن الأكثر تضررًا من هذه الانتهاكات التي تورط فيها بعض أفراد الأمم المتحدة وجنود بعثات السلام، كما دعوا إلى ضرورة تعديل القوانين بحيث تُمنح المحاكم الوطنية صلاحية محاكمة المتورطين، بدلًا من إعادتهم إلى بلدانهم، تفاديًا لاحتمال إفلاتهم من العقاب أو عدم خضوعهم لمحاكمة عادلة.
ووفقًا لتعريفات الأمم المتحدة، يُقصد بالاستغلال الجنسي أي استغلال فعلي أو محاولة استغلال لحالة ضعف أو تفاوت في القوة، بينما يشير الاعتداء الجنسي إلى أي اقتحام جسدي فعلي أو مهدد به ذي طبيعة جنسية، سواء تم بالقوة أو تحت ظروف غير متكافئة أو قسرية.
أما اتفاقية حقوق الطفل، فتنص على أن الطفل هو كل شخص لم يتجاوز عمره 18 عامًا، ويُعتبر أي نشاط جنسي معه اعتداءً جنسيًا واضحًا لا لبس فيه.
وخلال الدورة الـ58 لمجلس حقوق الإنسان، التي تستمر حتى 4 أبريل المقبل، يُناقش تقرير المقررة الخاصة المعنية ببيع الأطفال واستغلالهم والاعتداء عليهم جنسيًا، ماما فاطمة سينغاتيه، والذي يسلط الضوء على الاعتداءات الجنسية ضد الأطفال في سياقي حفظ السلام والعمل الإنساني.
ويشير التقرير إلى أن هذه الجرائم تُرتكب من قبل بعض موظفي الأمم المتحدة أو المرتبطين بها، الذين يتمتعون بنفوذ وسيطرة على الموارد الأساسية اللازمة لبقاء المجتمعات المتضررة، مما يزيد من احتمالات إساءة استغلال سلطتهم في سياقات مختلفة.
ويحذر التقرير من أن الاعتداءات الجنسية على الأطفال في هذه السياقات قد تتخذ أشكالًا متعددة، مثل الاغتصاب، والاعتداء الجنسي، واستغلال الأطفال في البغاء، أو الاتجار بهم لأغراض الاستغلال الجنسي.
تاريخ الانتهاكات
على مدار نحو ربع قرن، ظل الاستغلال والاعتداء الجنسي في إفريقيا قضية متكررة، وفق ما وثّقه تقرير أممي من انتهاكات وأحداث، رصدتها "جسور بوست" على النحو التالي:
2001: ظهرت ادعاءات في مخيمات اللاجئين بغينيا وليبيريا وسيراليون تفيد بأن موظفي الأمم المتحدة مارسوا أنشطة جنسية مع الأطفال مقابل مساعدات أساسية، مثل الغذاء والخدمات الطبية والنقل، إضافة إلى التسجيل للعودة إلى الوطن أو الحصول على بطاقات تموين ومنح دراسية.
2004: تعرضت فتيات قاصرات في جمهورية الكونغو الديمقراطية للاغتصاب على أيدي أفراد من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، مقابل المال أو الطعام.
2004-2007: في هايتي، تورط 134 من أفراد قوات حفظ السلام في اعتداءات جنسية على ما لا يقل عن تسعة أطفال، حيث استُغلوا مقابل الطعام أو المال أو ممتلكات أخرى. بعض الضحايا لم تتجاوز أعمارهم 12 عامًا، وتعرضت بعض الفتيات لاعتداءات متكررة من قبل أكثر من 30 جنديًا خلال تلك الفترة.
2007: قامت الأمم المتحدة بإبعاد أربعة جنود من بنغلاديش يعملون ضمن قوات حفظ السلام في جوبا، جنوب السودان، إثر اتهامهم باستغلال أطفال قاصرين جنسيًا. كما وُجهت اتهامات لعناصر بعثة أممية أخرى بالاعتداء الجنسي على قاصرات في ساحل العاج.
2008: صدرت تقارير تفيد بتورط قوات أممية في اعتداءات جنسية ضد أطفال ونساء في كل من ساحل العاج، وجنوب السودان، وهايتي.
2010: وُجهت اتهامات جديدة لـ16 جنديًا أمميًا بارتكاب اعتداءات جنسية بحق قاصرات في ساحل العاج.
2011: أعربت حكومة أورغواي عن نيتها إعادة خمسة من أفراد وحدتها في قوة حفظ السلام في هايتي بعد توجيه اتهامات لهم بالتورط في اعتداءات جنسية.
2014: ظهرت ادعاءات حول تعرض أطفال في مخيم للنازحين داخليًا في جمهورية إفريقيا الوسطى للاستغلال الجنسي مقابل حصص غذائية عسكرية أو مبالغ نقدية صغيرة، من قِبل أفراد في قوات حفظ السلام الدولية.
2015: وثّق تقرير أممي سنوي تسجيل 69 حالة اعتداء جنسي ارتكبها أفراد قوات حفظ السلام، مقارنة بـ52 حالة في عام 2014، في وسط إفريقيا والكونغو الديمقراطية.
وأشار التقرير إلى أن عام 2015 شهد 15 اعتداءً تورط فيها مدنيون تابعون للأمم المتحدة، و38 اعتداءً من أفراد عسكريين، إضافة إلى 16 حالة أخرى ارتكبها ضباط شرطة ضمن بعثات حفظ السلام.
2016: أعلنت بعثة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في جمهورية إفريقيا الوسطى تلقيها تقارير عن انتهاكات جنسية ارتكبها أفراد وحداتها وموظفون أمميون مدنيون خلال عامي 2014 و2015، مؤكدة أنها ستجري تحقيقات في هذه الوقائع.
وفي العام نفسه، تبنى مجلس الأمن قرارًا يسمح بإعادة وحدات كاملة من قوات حفظ السلام إلى بلادها في حال تورط بعض أفرادها في اعتداءات جنسية.
2021: سحبت الأمم المتحدة نحو 450 جنديًا غابونيًا من قوات حفظ السلام في إفريقيا الوسطى، بعد مزاعم متكررة بشأن تورطهم في اعتداءات واستغلال جنسي، وأعلنت وزارة الدفاع الغابونية أن هذا الإجراء جاء استجابة لتقارير موثقة حول الانتهاكات.
2023: وجهت الأمم المتحدة اتهامات إلى 11 فردًا من قوات حفظ السلام في إفريقيا الوسطى بارتكاب استغلال واعتداءات جنسية، استنادًا إلى أدلة أولية ضد وحدة حفظ السلام التنزانية المنتشرة في غرب البلاد، تضمنت الاتهامات استغلال أربع ضحايا، بينهن قاصرات.
وأكدت المنظمة أن الضحايا تلقين الرعاية والدعم الفوريَّين عبر شركاء البعثة، وفقًا لاحتياجاتهن الطبية والنفسية وأغراض الحماية.
آليات للمحاسبة
بدوره، أكد الحقوقي المتخصص في شؤون النزاعات، صالح عثمان، في تصريح لـ"جسور بوست"، أن الاستغلال الجنسي للأطفال والفتيات القاصرات بات ظاهرة مقلقة ومتكررة في إفريقيا، خصوصًا في المناطق التي تنتشر فيها قوات حفظ السلام والموظفون الأمميون.
وأوضح عثمان أن هذه الانتهاكات تحدث غالبًا في سياقات يعاني فيها السكان من الفقر والجوع والاحتياج إلى أساسيات الحياة، في حين يتمتع موظفو الأمم المتحدة بأوضاع اقتصادية أفضل ورواتب بالعملة الأجنبية، ما يمنحهم نفوذًا يسمح للبعض منهم باستغلال الأطفال والفتيات الصغيرات.
وشدد عثمان، وهو أحد أبرز الحقوقيين في إقليم دارفور، على رفضه القاطع لمحاولات بعض المتهمين تبرير تلك الممارسات بالتراضي، مشيرًا إلى أن القانون الدولي يؤكد أنه إذا كان سن الضحية أقل من 18 عامًا، فلا يُعتدّ بالموافقة في مثل هذه الحالات.
وكشف عثمان أنه خلال عمله في لجان أممية شُكِّلت لمتابعة النزاع في دارفور، قامت الأمم المتحدة بوضع مدونة سلوك تمنع العاملين في مؤسساتها من استغلال الضحايا، خصوصًا الأطفال، لكنه أشار إلى أن هذه اللوائح لم تكن كافية لمواجهة الظاهرة، حيث اصطدمت العقوبات بحصانة أفراد بعثات الأمم المتحدة، والتي تمنع محاكمتهم وفق القوانين المحلية للدول المستضيفة.
وأضاف: “هذه الحصانة القانونية تمثل عقبة رئيسية أمام تحقيق العدالة”، مشددًا على ضرورة إنشاء محاكم تابعة للأمم المتحدة أو السماح بمحاكمة المتهمين أمام محاكم الدول التي يعملون بها، دون الحاجة إلى الإجراءات المعقدة لرفع الحصانة أو إعادتهم إلى بلدانهم الأصلية.
ومضى قائلا: "إعادة المدانين إلى بلدانهم يمثل مشكلة كبرى، حيث لا توجد ضمانات بأنهم سيخضعون لمحاكمات عادلة"، مطالبا الأمم المتحدة بإعادة النظر في إجراءات حماية الأطفال من الاستغلال الجنسي، وتعزيز آليات تقديم الدعم النفسي والتعويض العادل للضحايا، لضمان جبر الضرر وإعادة الاعتبار إليهم.
إجراءات صارمة
من جانبها، أشادت سليمى إسحاق، الحقوقية السودانية ومديرة وحدة مكافحة العنف ضد المرأة (هيئة حكومية) بالجهود التي تبذلها الأمم المتحدة في تدريب موظفيها والمتعاونين معها على تجنب الاستغلال والانتهاكات الجنسية، لكنها أشارت إلى وجود عقبات خطيرة تحد من فاعلية هذه التدريبات.
وأوضحت سليمى، في تصريح لـ"جسور بوست"، أن آلية التبليغ تمثل أبرز التحديات، حيث تمنع سلطة المعتدي العديد من الضحايا من الإبلاغ عن الانتهاكات، خصوصًا أن بعض الضحايا هن متطوعات في العمل الإنساني، ما يجعلهن أكثر عرضة للضغط والخوف من فقدان فرصهن.
وأكدت ضرورة تعزيز الوعي بآليات التبليغ، وتشجيع الضحايا على تقديم الشكاوى دون خشية العواقب، مشيرة إلى أن الاستغلال يستمر بسبب جهل الضحايا بحقوقهم، بالإضافة إلى استغلال أوضاعهم الاقتصادية الصعبة.
وشددت على أن جرائم الاعتداء والاستغلال الجنسي للأطفال يجب أن تخضع لإجراءات قانونية صارمة وفورية، لا أن تُعالج بإجراءات إدارية داخلية، كما دعت الأمم المتحدة إلى مواءمة تشريعاتها مع القوانين المحلية في الدول الإفريقية، بحيث تكون هناك آليات حماية إلزامية وليست مجرد توصيات أو إجراءات إدارية.
واختتمت سليمى إسحاق حديثها بالتأكيد على أهمية التعويضات كجزء من العقوبة، لكنها شددت على أن التعويض المالي لا يمكن أن يكون بديلاً عن العقوبات الجنائية، مثل السجن، لضمان محاسبة الجناة وإنهاء ثقافة الإفلات من العقاب.