عقب تمرد داخل سجون "أميون".. أوضاع مراكز الاحتجاز في لبنان تلامس حافة الانفجار
قنبلة اجتماعية موقوتة
شهد أحد سجون شمال لبنان، مطلع الأسبوع، حالة تمرد خطيرة تطورت إلى احتجاز عنصرين من القوى الأمنية رهائنَ في واقعة أعادت تسليط الضوء على الأوضاع المتدهورة داخل السجون اللبنانية، وسط أزمات اقتصادية وسياسية وأمنية خانقة تعصف بالبلاد.
ووفق ما أوردته الوكالة الوطنية للإعلام اللبنانية الرسمية، فإن سجن أميون في شمال لبنان شهد حالة تمرد من قبل عدد من النزلاء، تخللتها تهديدات بإشعال حريق داخل السجن.
وقد تدخلت قوة كبيرة من فرقة التدخل السريع لمحاولة احتواء التمرد وفتح أبواب السجن، بينما وُضعت فرق الدفاع المدني في حالة استنفار لأي طارئ محتمل.
ورغم عدم إعلان الأسباب الرسمية خلف التمرد، إلا أن خبراء في الشأن الحقوقي اللبناني أكدوا لـ"جسور بوست" أن الحادث يعكس واقعاً مأساوياً تعيشه السجون في لبنان، من اكتظاظ خانق وغياب الرعاية الصحية، إلى التوقيف الاحتياطي المطوّل، معتبرين ما يحدث "خرقًا فاضحًا لأبسط معايير حقوق الإنسان"، ودعوا إلى تدخل دولي عاجل لدعم لبنان في تحسين أوضاع السجون ومرافق الاحتجاز.
الحرمان من كل شيء
وفي 6 أغسطس 2024، أطلقت الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان تقريرًا بعنوان: "رصد انتهاكات حقوق الإنسان في أماكن الاحتجاز: الحرمان من كل شيء"، استعرضت فيه نتائج 228 زيارة لـ182 مركز احتجاز تديرها قوى الأمن الداخلي، بالإضافة إلى 8 مراكز تابعة للجيش.
وسلّط التقرير الضوء على انتهاكات واسعة، أبرزها اكتظاظ شديد داخل الزنازين، وتدهور نوعية الطعام، وغياب مياه الشرب المنتظمة، وانقطاع التيار الكهربائي بشكل متكرر، وغياب الخصوصية والحرمان من ضوء الشمس، وعدم المساواة في الحقوق الأساسية مثل الاتصال والزيارات، وتأخر كبير في عرض المحتجزين على المحاكم، ما يؤدي إلى احتجازهم لفترات غير مبررة.
وقدم التقرير سلسلة من التوصيات العاجلة، من بينها تسريع عرض القاصرين المحتجزين على القضاء وإخلاء سبيل من يحق له ذلك، وزيادة عدد النظارات الخاصة بالنساء لتقليل الاكتظاظ وتسهيل الزيارات، وإصلاح النظارات المعطلة في مختلف المناطق اللبنانية، وتنظيم دورات تدريبية متخصصة لعناصر قوى الأمن الداخلي، وضمان الإشراف القضائي على جميع مراكز الاحتجاز.
وجاء تقرير الهيئة بعد عام تقريباً من تحذير مماثل صادر عن منظمة "هيومن رايتس ووتش" في أغسطس 2023، أكدت فيه أن السجون في لبنان تشهد انهياراً ممنهجاً في ظل الأزمة الاقتصادية، وذكرت أن الاكتظاظ بات القاعدة، والرعاية الصحية شبه معدومة، وأن تقاعس الحكومة عن دفع مستحقاتها بات يهدد الإمدادات الغذائية.
ووفق بيانات وزارة الداخلية، فإن 80% من السجناء في لبنان موقوفون احتياطيًا دون محاكمة، فيما يفوق عدد النزلاء الطاقة الاستيعابية لمعظم السجون، فسجن رومية، المصمم لاستيعاب 1200 نزيل، يؤوي حالياً أكثر من 4000، أما إجمالي السعة الرسمية للسجون في لبنان فيبلغ 4760، بينما العدد الفعلي للنزلاء وصل إلى 8502، منهم 1094 فقط صدرت بحقهم أحكام.
وأكدت قوى الأمن الداخلي أن معظم السجون، مثل سجن زحلة وسجن طرابلس وسجني النساء في بعبدا وبربر خازن، تعاني من اكتظاظ يفوق قدراتها. وأرجعت الأسباب إلى زيادة الجرائم، وبطء الإجراءات القضائية، وعجز عدد من السجناء عن دفع رسوم الإفراج بعد انتهاء فترة حبسهم.
أزمة تحتاج حلولًا جذرية
في ظل الأزمات المتفاقمة التي يعيشها لبنان، يبقى ملف السجون قنبلة موقوتة تهدد بانفجار اجتماعي وأمني في أي لحظة، ما يستدعي تحركًا سريعًا وجادًا من السلطات، وبدعم المجتمع الدولي، لوضع حد للانتهاكات اليومية وتحسين ظروف الاحتجاز بما يراعي الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية.
في ظل تصاعد التحذيرات الحقوقية والدولية من انفجار اجتماعي وشيك داخل السجون اللبنانية، أطلق محللون وصحفيون لبنانيون صرخة تحذير، معتبرين أن واقع السجون بات "قنبلة موقوتة" تعكس عمق الانهيار المؤسسي، وأن أي حل مستدام يتطلب إرادة سياسية داخلية ودعماً دولياً عاجلاً.
وفي هذا السياق، قال المحلل السياسي اللبناني طارق أبو زينب في تصريحات لـ"جسور بوست": "إن أوضاع السجون في لبنان بلغت حدًا لا يمكن السكوت عنه، فالاكتظاظ الخانق، غياب الرعاية الصحية، التوقيف الاحتياطي المطول، والظروف الإنسانية القاسية، كلها تمثل خرقًا صارخًا لأبسط المعايير الدولية لحقوق الإنسان".
وأضاف أبو زينب أن التحذيرات الحقوقية ليست جديدة، لكنها باتت اليوم أكثر إلحاحًا في ظل الانهيار الاقتصادي الحاد، الذي انعكس مباشرة على تغذية السجناء، وتأمين أدويتهم، وحتى كرامتهم، مؤكدا أن المطلوب ليس مجرد تحسينات شكلية، بل مقاربة سياسية وقانونية شاملة تبدأ بإصلاح المنظومة القضائية، وتسريع المحاكمات، وتطوير البنية التحتية للسجون بما يضمن كرامة الإنسان.
وأكد أن لبنان، الذي طالما قدّم نفسه كمدافع عن الحريات، أصبح اليوم مطالبًا بأن يواجه حقيقة واقعه بشجاعة، ويكسر جدران الإهمال والتجاهل قبل أن تنفجر هذه الأزمة من الداخل، مشددا على أن الدعم الدولي بات ضرورة وليس خيارًا.
كما أشار أبو زينب إلى أن الدولة اللبنانية أصبحت عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الرعاية الصحية والغذائية والنظافة للسجناء، ما ينذر بكارثة إنسانية وأمنية وشيكة، قائلا: "لا يمكن لأي دعم خارجي أن ينجح ما لم تكن هناك إرادة سياسية داخلية لمواجهة هذا الملف بجدية ومسؤولية، إن إنقاذ كرامة الإنسان في مؤسسات الدولة اللبنانية يبدأ أولاً من الداخل".
مساحات غير قانونية
من جانبه، أرجع الكاتب الصحفي اللبناني وفيق الهواري، في تصريح لـ"جسور بوست"، أسباب الأزمة المتفاقمة إلى غياب رؤية إصلاحية شاملة، قائلاً: "السجون لم تعد مراكز إصلاح، بل تحولت إلى فضاءات للعقاب والعنف والإهمال. الأصل أن تكون فرصة لإعادة بناء الإنسان، لكنها أصبحت، للأسف، أمكنة لارتكاب المخالفات وتفشي الفساد".
وأشار الهواري إلى أن الانهيار المالي والمؤسساتي الذي تعيشه الدولة أتاح مجالاً واسعًا لممارسات غير قانونية، من بينها: "الرشاوى مقابل تسهيلات أو تجاوزات داخل السجون"، متحدثًا عن تفشي ظواهر مثل الإتجار بالمخدرات وغياب الرقابة.
ورأى الهواري أن أحد أبرز الأسباب المباشرة لتدهور الأوضاع هو التأخر في البت بالمحاكمات، فضلًا عن تقصير الدولة في تأمين الغذاء والرعاية الصحية للسجناء.
وبينما تستمر التحذيرات من تحوّل السجون اللبنانية إلى بؤر انفجار اجتماعي وأمني، يتفق الخبراء على أن المعالجة لا يمكن أن تأتي من الخارج فقط، بل تتطلب خطة داخلية تبدأ بإصلاحات تشريعية وقضائية، وتوفير بنى تحتية وإنسانية لائقة، تُعيد إلى السجون وظيفتها الحقيقية بصفتها مؤسسات لإعادة التأهيل، لا مراكز لتفاقم المأساة.