من الحقول إلى الموائد.. كيف يهدد تغير المناخ أمن الغذاء في المملكة المتحدة؟

من الحقول إلى الموائد.. كيف يهدد تغير المناخ أمن الغذاء في المملكة المتحدة؟
تداعيات التغير المناخي على الأمن الغذائي في بريطانيا

تدخل المملكة المتحدة موسم حصاد استثنائي مع مؤشرات تحليلية حديثة ترجح أن يكون حصاد 2025 من بين الأسوأ منذ بدء التسجيل المفصل في منتصف الثمانينيات، وتعكس أرقام ومشاهد من الحقول واقعا قاسيا صنعته سماء شحيحة المطر وحرارة قياسية، في بلد يعتمد بدرجات متباينة على إنتاجه المحلي من الحبوب والخضراوات والأعلاف.

 وبحسب تحليل لوحدة استخبارات الطاقة والمناخ استنادا إلى تقديرات مجلس تنمية الزراعة والبستنة، فإن تكرار موسم ضعيف آخر يعني أن ثلاثة من بين أسوأ خمسة مواسم حصاد مسجلة وقعت خلال هذا العقد، أعوام 2020 و2024 و2025، وهو ما يضع أزمة تغير المناخ في قلب القصة الزراعية البريطانية، وفق صحيفة "ذا ستاندرد".

ظاهرة ومناخ متقلب

لا تبدو هذه السنة حدثا منفصلا بقدر ما هي حلقة في سلسلة تضربها الظواهر المتطرفة، فقد أكد مكتب الأرصاد البريطاني أن ربيع 2025 كان الأشد دفئا والأكثر سطوعا منذ بدء السجلات، مع أمطار أقل بكثير من المعدلات في مناطق واسعة، وهو ما ترك النباتات تحت ضغط جفاف طويل خلال مراحل النمو الحاسمة، وهذه الصورة المناخية، الموثقة بسلسلة بيانات رسمية، جعلت الحقول تدخل الصيف وهي أقل قدرة على تعويض النقص المائي، لتظهر آثارها سريعا في سنابل القمح وحبوب الشعير والشوفان.

وتشير تقديرات أولية لمجلس تنمية الزراعة والبستنة ""AHDB إلى تراجع ملحوظ في غلال المحاصيل الأساسية، وهو ما يدفع السيناريو العام نحو خامس أسوأ حصاد منذ 1984 إذا استمرت الاتجاهات الحالية حتى نهاية الموسم، وهذا التقييم، الذي راجعه محللون مستقلون، لا يستند إلى انطباعات، بل إلى رصد مباشر لما يحدث في الحقول من تفاوت مناطقي واضح تبعا لنوعية التربة وجغرافيا المطر.

وتؤكد تغطيات متقاطعة في الصحافة البريطانية أن أثر الجفاف هذا العام يأتي بعد عام سابق اتسم بغزارة أمطار أضرت بالزراعة، لتتجسد تقلّبات المناخ في موسمين متعاقبين أحدهما مفرط الرطوبة والآخر مفرط الجفاف. 

جفاف قياسي وبنية هشة

لا ينفصل الضغط المناخي عن بنية الإنتاج الزراعي في بريطانيا، فالمزارع البريطاني دخل الموسم بعد شتاء ومطلع ربيع غير مواتيين، ثم واجه ربيعا قياسيا في الدفء وقلة الأمطار، بينما لم تكن البنية التحتية المائية والتقنيات الزراعية قادرة دائما على امتصاص الصدمة، خصوصا في المزارع البعلية التي تعتمد على المطر، وفي حين يمكن للري والتحول نحو ممارسات تربة أكثر احتفاظا بالرطوبة أن يخففا بعض الخطر، فإن سرعة الإيقاع المناخي تفوق أحيانا سرعة التكيف في الحقول، ويضع تقرير التقييم السادس للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ أوروبا أمام خطر واضح يتمثل في إجهاد الحرارة والجفاف على المحاصيل وخسائر إنتاجية واسعة.

ويتجاوز أثر الحصاد الضعيف حدود المزرعة ليصل إلى سلة المستهلك وتوقعات التضخم، فقد أشار بنك إنجلترا في تقريره النقدي لشهر أغسطس إلى أن أسعار الغذاء، ضمن عوامل أخرى، تسهم في بقاء التضخم أعلى من الهدف، بينما قد يحول استمرار الطقس المتطرف دون الانخفاض المتوقع في تضخم الغذاء خلال العام المقبل، ومع اتساع فجوة الإنتاج المحلي تزداد حساسية السوق البريطانية لصدمات سلاسل الإمداد العالمية وتقلبات الأسعار الدولية. 

يتحدث المزارعون عن موسم مرهق لمخزونات العلف وحقول الخضراوات الحقلية مثل البروكلي والقرنبيط، ويخوض مربو الماشية معركة موازية لتأمين الأعلاف لأبقارهم وأغنامهم، وتتفاوت الصورة بين الشرق الجاف والأقاليم التي حظيت ببعض الأمطار، وبين ترب رملية سريعة الفقد للرطوبة وأخرى طينية أثقل احتفاظا بالماء.

التقارير الأممية والاقتصادية

تنبع أهمية ما يجري في بريطانيا من كونه جزءا من مسار عالمي، فقد وثقت المنظمة العالمية للأرصاد الجوية أن عام 2024 كان الأشد حرارة عالميا، مع تكاثر ظواهر الطقس المتطرف التي تضرب منظومات الإنتاج الغذائي في مناطق عدة، وفي أوروبا تحديدا، يبين تقرير حالة المناخ الأوروبي لعام 2024 من خدمة كوبرنيكوس أن القارة شهدت عاما قياسيا في الحرارة، وازدادت فيه مظاهر التطرف بين فيضانات واسعة وجفاف شديد وحرّ طويل، وهي مروحة من المخاطر لها آثار مباشرة على الغلال الزراعية وجودة التربة ومياه الري.

بعيدا عن القارة، تقدم تقارير أممية تقديرات ثقيلة الدلالة، فمنظمة الأغذية والزراعة (الفاو) تقول إن الكوارث الطبيعية والبشرية ألحقت خلال ثلاثة عقود خسائر قدرها 3.8 تريليون دولار بإنتاج المحاصيل والثروة الحيوانية حول العالم، بمتوسط سنوي يبلغ نحو 123 مليار دولار، وهي أرقام تكشف عبء الطقس المتطرف على الأمن الغذائي وسبل العيش الزراعية، وعلى مستوى أوروبا، تشير تحليلات اقتصادية حديثة مدعومة من مؤسسات الاتحاد إلى أن الطقس المتطرف يكلف الزراعة الأوروبية عشرات المليارات سنويا، مع توقعات بارتفاع الخسائر في غياب تسريع إجراءات التكيف. 

من الظاهرة إلى المنظومة

حين تتوالى المواسم الضعيفة، تظهر هشاشة المنظومة من البذرة إلى المائدة.. فالإنتاج المحلي يتراجع، واستيراد الحبوب والأعلاف يرتفع، وتجد الصناعات الغذائية نفسها أمام تكلفة مدخلات أعلى وهوامش أضيق، فيما يواجه المستهلك خيارات أصعب في ميزانيته الشهرية، وتؤكد تحليلات وحدة معلومات الطاقة والمناخ (ECIU) أن استمرار المسار الحالي يعني مضاعفة اعتماد المملكة المتحدة على الواردات في بعض السلع، مع ما يرافق ذلك من تعرض أكبر لصدمات أسعار عالمية ومخاطر لوجستية، وفي المقابل، يبرز في المشهد ما هو إيجابي محتمل إذا أُحسن الاستثمار من خلال تحسين خصوبة التربة واستعادتها، والتوسع في محاصيل أكثر تحملا للجفاف، وتقنيات زراعة دقيقة لترشيد المياه، وبنية تخزينية ونقل تقلل الفاقد والهدر. 

وعلى المستوى القريب، تعني المؤشرات الحالية إدارة دقيقة لما تبقى من الموسم، وتوفير دعم طارئ للمزارعين الأكثر تضررا للحفاظ على الاستمرارية الاقتصادية للحقول ومزارع الثروة الحيوانية، وعلى المدى المتوسط، تتلاقى توصيات الخبراء مع خلاصات الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ والمكتب الوطني للأرصاد في الدعوة إلى حزمة متكاملة تشمل خطط ريّ مرنة تراعي ندرة المياه وتنافس الاستخدامات، وممارسات تربة تزيد الكربون العضوي لتحسين الاحتفاظ بالرطوبة، وتنويع الأصناف ومواسم الزراعة، وتوسيع التأمين المناخي الذي لا يزال يغطي جزءا محدودا من الخسائر في أوروبا، كما يبرز دور أدوات التمويل الأخضر وحوافز الاستثمار في البنية المائية والمعدات الموفرة للمياه والطاقة في المزارع، وفي مستوى أوسع، يظل خفض الانبعاثات مسارا لا بديل عنه لخفض مخاطر موجات الحر والجفاف المتكررة التي توثقها السجلات المناخية الحديثة

مع كل موسم صعب، تعيد شركات الأغذية وتجار التجزئة النظر في عقود التوريد وتكوّن مخزونات أكبر لتخفيف التقلبات، غير أن قدرة السوق على امتصاص الصدمات ليست بلا حدود، ويعيد التحذير الأحدث من بنك إنجلترا بشأن دور الطقس المتطرف في إعادة إشعال تضخم الغذاء التذكير بأن أمن الإمدادات ليس شأنا زراعيا صرفا، بل قضية اقتصادية واجتماعية. 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية