14 مليون بريطاني يواجهون الجوع.. ماذا يعني تصاعد الفقر الغذائي للسياسة والعدالة الاجتماعية؟

14 مليون بريطاني يواجهون الجوع.. ماذا يعني تصاعد الفقر الغذائي للسياسة والعدالة الاجتماعية؟
بريطانيا

يشير تقرير حديث لمؤسسة تراسل تراست، أكبر شبكة لبنوك طعام في المملكة المتحدة، إلى أن نحو 14.1 مليون شخص في بريطانيا واجهوا انعدام الأمن الغذائي خلال 2024، بينهم 3.8 مليون طفل، بمعدل يقارب بيتاً من كل ستة بيوت متأثرين بالجوع، ويضع ارتفاع هذه الأرقام مقارنة بعام 2022، وتوسّع ظاهرة اللجوء إلى بنوك الطعام بين العمال ذوي الدخل المنخفض، يضع علامات استفهام حول فعالية سياسات الدخل والضمان الاجتماعي في دولة تعتبر من اقتصادات العالم المتقدمة.

بوصلة الأرقام وتأثيرها المباشر

تسلط الأرقام الجديدة ضوءاً صارخاً على تحول أساسي في طبيعة الفقر الغذائي حيث تم تسجيل ارتفاع نسبة الأسر المتضررة في بريطانيا من 11.6 مليون شخص عام 2022 إلى نحو 14.1 مليون في 2024، وارتفاع حصة المستفيدين من بنوك الطعام الذين هم في وظائف بأجر منخفض أو غير ثابت إلى نحو 30 في المئة، وهذا يعني أن التوظيف لم يعد كفيلاً بحماية الأسر من انعدام الأمن الغذائي، وأن هشاشة سوق العمل والتكاليف المعيشية باتت تقوض قدرة الوظيفة على توفير سبل العيش، وفق صحيفة "الغارديان" البريطانية

أسباب تراكم الأزمة

يمكن اختصار الأسباب الرئيسة لتفاقم الجوع وتراجع مستوى المعيشة في بريطانيا في أربعة محاور مترابطة أولها ضعف الأجور والتوظيف غير المستقر من خلال توسع العمالة الجزئية والعقود قصيرة الأجل وارتفاع عدد العاملين بأجور دون مستوى الكفاف، ما قلل الحماية التقليدية التي يفترض أن توفرها الوظيفة.

ثانيا: ضغوط تكاليف المعيشة ممثلة في ارتفاع أسعار الغذاء والسكن والطاقة خلال السنوات الماضية ما أثر بشكل خاص على الأسر ذات الدخل الأدنى، وخفض القدرة الفعلية للأجور على تغطية الاحتياجات الأساسية.

ثالثا: سياسات الضمان الاجتماعي حيث تم تجميد معدلات بعض المخصصات، وقيود مثل حد الطفلين على بعض المعونات، قيود على الاستحقاقات، وغياب آليات كفيلة بالتعامل الطارئ مع ارتفاع الأسعار، كل ذلك أدى إلى تقليص شبكة الحماية، وتؤكد مؤسسات وأبحاث مستقلة أن إلغاء حد الطفلين قد يرفع ملايين الأشخاص خارج حالات العوز، وأن مثل هذه التغييرات ستكون لها أثر مباشر على قدرة الأسر على شراء الغذاء.

أما رابع محور فيتمثل في انعدام الإسكان الميسور وتآكل خدمات الدعم المحلي: محدودية الإعاقة المؤسسية في بعض المناطق، وارتفاع الإيجارات، وخصخصة خدمات الحماية جعلت الأسر أكثر عرضة للصدمات.

تداعيات إنسانية واجتماعية وسياسية

الأثر الإنساني واضح ومتعاظم فالجوع المتكرر يؤثر على نمو الأطفال وصحتهم البدنية والنفسية وقدرتهم التعليمية؛ والبالغون يواجهون تدهوراً في الصحة العامة وارتفاعاً في ضغوط الأمراض المزمنة، واقتصادياً، يؤدي الفقر العميق إلى تراجع الإنتاجية وزيادة الأعباء على نظم الصحة والتعليم، وهو ما وثقته دراسات تربط بين الفقر وتكلفة اقتصادية طويلة الأمد، وسياسياً، تحفز هذه الأوضاع السخط الشعبي وتفتح الباب أمام مطالبات بتغيير سياسات الرعاية الاجتماعية، كما تُشكل ضغطاً على الحكومات لتقديم حلول سريعة وقابلة للقياس.

ردود المنظمات الحقوقية والأممية

دعت مؤسسات مثل تراسل تراست إلى خطوات فورية، بينها إلغاء حد الطفلين ورفع الشبكة الاجتماعية لدعم الأسر المحتاجة، محذرة من أن الاعتماد الجماعي على الطرود الغذائية قد يتحول إلى واقع دائم دون تدخل حكومي فاعل، وسلطت منظمات دولية وإنسانية مثل يونيسف وبعثات محلية ومنظمات مثل العفو الدولية "أمنيستي" الضوء على تبعات الفقر على حقوق الأطفال واعتبرت أن سياسات الحماية الاجتماعية الحالية قد لا تفي بالتزامات الدولة تجاه الحق في مستوى معيشي كاف، بما في ذلك حق الغذاء كما نص عليه العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ومعياراته التفسيرية.

المشهد القانوني: التزامات ومرجعيات

من منظور القانون الدولي لحقوق الإنسان، تلتزم الدول باتخاذ خطوات فاعلة لتحقيق الحق في الغذاء والحد من الحرمان الغذائي إلى أقصى ما تتيحه مواردها، وفق مبادئ "الاحترام والحماية والتحقيق" المنصوص عليها في تعليقات لجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وترى منظمات حقوقية أن فشل السياسات في التصدي للجوع المتزايد يثير أسئلة عن ملاءمة الإجراءات المتخذة وواجبات الحكومة في حماية الفئات الضعيفة. 

مواقف الحكومة والإجراءات المقترحة

أعلنت وزارة العمل والمعاشات أن الحكومة البريطانية ستطلق استراتيجية وطنية لمكافحة فقر الأطفال تتضمن إصلاح نظام الرعاية الاجتماعية وتعزيز مراكز العمل وبرامج دعم للأطفال خلال العطلات، إضافة إلى استثمارات مساعدة، ويشير المراقبون إلى أن هذه الخطوات مرحب بها لكنها لا تصلح دون إصلاحات هيكلية مثل إعادة تقييم حدود المخصصات، إدخال ضمان حد أدنى مضمون للضروريات الأساسية، وتعزيز سوق العمل بزيادات فعلية في الأجور وتحسين شروط العمل. 

خيارات سياسة عامة مدعومة بالأدلة

تحليلات جمعيات ومراكز أبحاث تقترح حزمة إجراءات فورية ومتوسطة المدى: إلغاء أو تخفيف حد الطفلين، ورفع معدلات الدعم الاجتماعي وربطها بتكاليف المعيشة، وضمانات سعرية أو دعم طارئ للطاقة والغذاء للفئات الأشد هشاشة، وتوسيع الإسكان الاجتماعي، وتعزيز وصول الأسر لفرص عمل مستقرة بأجر لائق، وتشير دراسات اقتصادية إلى أن استثمارات مماثلة يمكن أن تؤدي إلى فوائد اقتصادية واجتماعية بعيدة المدى مع تقليل تكاليف الاضطرابات الاجتماعية والصحية.

أرقام 2024 تكشف أن الجوع في بريطانيا بات ظاهرة شاملة تتجاوز حدود الفقر التقليدي وتصل إلى شرائح موظفة ومناطق حضرية وأسر تعمل بدوام كامل، ومواجهة هذا الواقع تتطلب أكثر من إجراءات رمزية، إنها دعوة وفق مؤسسة تراسل تراست لإعادة بناء شبكة الضمان الاجتماعي وربط سياسات العمل والإسكان والرواتب بسياسة وطنية متكاملة لمواجهة الفقر، وفشل المعالجة سيؤدي إلى تكريس حالة من الحرمان الاجتماعي والسياسي، بينما النجاح فيها يمثل استثماراً في استقرار المجتمع والاقتصاد على المديين المتوسط والطويل.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية