مدغشقر على صفيح ساخن.. أزمة معيشية تتحول إلى احتجاجات ضد الحكومة وسقوط عشرات الجرحى
مدغشقر على صفيح ساخن.. أزمة معيشية تتحول إلى احتجاجات ضد الحكومة وسقوط عشرات الجرحى
شهدت أنتاناناريفو عاصمة مدغشقر، الخميس، تظاهرات واسعة شارك فيها آلاف المواطنين احتجاجاً على أداء الحكومة، ما أدى إلى مواجهات عنيفة مع قوات الأمن التي استخدمت الرصاص المطاطي والقنابل الصوتية والهراوات لتفريق المحتجين، وفق ما أفاد به مراسلو وكالة الصحافة الفرنسية.
ابتدأت التظاهرات سلمية، ثم تحولت بعض أجزاء منها إلى مواجهات مع قوات الأمن، التي ردّت باستخدام الغاز المسيل للدموع، الرصاص المطاطي، القنابل الصوتية، وأحياناً الضرب، بحسب شهادات عدة، وتزايدت التوترات مع اقتحام بعض الشوارع وعرقلة المرور، وردّ الشباب بإلقاء الحجارة في مواجهة الأمن.
وأسفرت المواجهات عن إصابة واعتقال عدد من المتظاهرين، في حين ردت مجموعات من الشبان بإلقاء الحجارة على عناصر الشرطة، لتتحول شوارع المدينة إلى ساحة اشتباكات متفرقة.
جيل غاضب يتحدى السلطة
لم تُفلح وعود رئيس مدغشقر أندري راجولينا، البالغ من العمر 51 عاماً، في تهدئة غضب المحتجين الذين ينتمون بمعظمهم إلى حركة "الجيل زد"، وهي مجموعة شبابية أطلقت شرارة الاحتجاجات قبل أسبوعين.
ويرى مراقبون أن تعامل الحكومة الجديد مع التظاهرات بمقاربات أمنية مشددة أسهم في تصاعد الغضب الشعبي واتساع رقعة المواجهات.
بدأت الاحتجاجات بسبب تردي الأوضاع المعيشية واستمرار انقطاع المياه والكهرباء في عدد من المدن، لكنها سرعان ما تحولت إلى حركة احتجاج سياسي تطالب باستقالة الرئيس.
ويعد هذا التصعيد الأكبر منذ التظاهرات التي سبقت الانتخابات الرئاسية عام 2023، والتي قاطعتها المعارضة، وشهدت مشاركة ضعيفة من الناخبين.
دعوات لوقف الانجراف العسكري
أعربت أكثر من مئتي منظمة من المجتمع المدني في مدغشقر عن قلقها من "الانجراف العسكري في حكم البلاد"، بعد أن أقدم الرئيس راجولينا على تعيين رئيس وزراء ذي خلفية عسكرية وعدد من الضباط لتولي وزارات الدفاع والأمن العام والدرك، في محاولة لاحتواء الاحتجاجات.
وقال الرئيس في خطاب متلفز إن البلاد "لم تعد بحاجة إلى اضطرابات جديدة"، داعياً إلى التهدئة.
ردّ فعل الحكومة وتغييرات رمزية
استجابت السلطة لموجة الاحتجاجات بإجراءات عدة منها إعلان الرئيس راجولينا حل الحكومة، وتعيين آخرين في المناصب الحساسة، خصوصاً وزراء الدفاع والأمن العام والدرك، بعضهم من العسكريين، كما أعلن موعداً لحوار وطني، لكنه لم يُقنع المحتجين الذين يرون أن هذه الخطوة غير كافية طالما أن المشكلة أعمق من التشكيلة الحكومية.
في خطابه، اعترف الرئيس بأن بعض أعضاء حكومته لم ينفذوا المهام الموكولة إليهم، وقدّم اعتذاراً نيابياً، لكنه أيضاً اتهم مجموعات بالمناورة، وخصوصاً التحرّك السياسي المعزّز من الجهات التي، حسبه، تحاول استغلال الوضع.
حصيلة الضحايا البشرية
بحسب مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، قُتل ما لا يقل عن اثنين وعشرين شخصاً وأصيب أكثر من مئة آخرين في التظاهرات، والضحايا من المتظاهرين، المارة، والمواطنين غير المرتبطين بشكل مباشر بالاحتجاجات، وأيضاً من أولئك الذين تضرروا في أعمال عنف أو سلب لاحقة، في حين نفت السلطات الرسمية بعض الأرقام أو تشكّك بها، معتبرة أنها مبالغات أو نقل لوقائع دون تأكيد.
هذا العنف أثار مخاوف كبيرة على حياة المدنيين، وعلى حرية التعبير والتجمع، لاسيما حين يتم استهداف الأطفال أو يُستخدم العنف بالقرب من المدارس والمرافق الصحية، ودعت مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان المكتب الإقليمي، كما UNICEF، دعت إلى حماية الأطفال وإبعادهم عن مواقع الاحتجاجات، خصوصاً عن التعرض للغازات المسيلة والضوضاء العالية.
مطالب محاسبة وإصلاحات سريعة
أصدرت منظمة العفو الدولية بياناً شديد اللهجة يرى أن استخدام القوة المفرطة وغير المبرَّر من قبل قوات الأمن يُعد انتهاكاً خطيراً لحق التظاهر السلمي، وتطالب بإجراء تحقيق مستقل وشفاف في قتل وجرح المتظاهرين، والإفراج الفوري عن كل من احتُجز لمجرد استخدام حقه في التظاهر، كما أشارت إلى قانون قديم يبلغ عمره نحو خمسة وسبعين عاماً يُستخدم لردع الاحتجاجات، وتطالب بإلغائه وبديله بقوانين تحترم الحقوق الأساسية.
ووصفت منظمة الاتحاد ضد التعذيب ردّ السلطات بأنه اعتمد على القمع الوحشي، مستشهدة بأن عدداً من إصابات المتظاهرين والضحايا بينهم أطفال، فضلاً على صحفيين كانوا يُغطّون الأحداث، وأبدى خشية من أن بعض تصرفات قوات الأمن قد تندرج تحت خانة المعاملة اللاإنسانية أو التعذيب.
كما عبر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عبّر عن أسفه العميق لخسائر الأرواح، ودعا إلى الامتثال للقانون الدولي لحقوق الإنسان، وطالب مفوض حقوق الإنسان، فولكر تُورك، بضمان حرية التعبير والتظاهر، واحترام الحق في التجمع السلمي، كما حثّ السلطات على الامتناع عن استخدام القوة المفرطة، وإطلاق حوار شامل مع الشباب والمجتمع المدني. ([مكتب الأمم المتحدة في جنيف
منظمة اليونيسف ركّزت خصوصاً على حماية الأطفال، من التعرض للغاز المسيل قرب المدارس والمناطق الحساسة، معتبرة أن ذلك يشكل خرقًا لحقهم في الأمان في الفترات التي تشهد فيها البلاد توتراً أمنياً.
عوامل وراء الاحتجاجات
يعود جزء كبير من التوتر الدائم في مدغشقر إلى ضعف مؤسسات الدولة في توفير الخدمات الأساسية، وكثافة الفقر الذي يعيش فيه نحو ثلاثة أرباع السكان، بحسب تقديرات البنك الدولي، وعامل آخر هو الفساد الذي ينخر الجهاز الإداري، وغياب الشفافية في صفقات الكهرباء والمياه والتوزيع، مما يزيد من شعور المواطنين بأنهم مُهمَّشون أو غير مسموعين.
الجيل الجديد يرى نفسه أكثر تحفيزاً رقمياً وأكثر اطلاعاً على ما يقدمه العالم من حريات وممارسات، ومُطالبته ليست مجرّد تحسين الخدمات المعيشية بل إصلاح سياسي شامل يتضمن انتخابات نزيهة، مساءلة المسؤولين، قانون تظاهرات يراعي الحقوق، وتغييرات في طريقة الحكم.
مدغشقر، الجزيرة الواقعة في المحيط الهندي، تعد من أفقر دول العالم رغم غناها بالموارد الطبيعية، حيث يعيش نحو 75 في المئة من سكانها تحت خط الفقر، وفق بيانات البنك الدولي.
تولى أندري راجولينا رئاسة البلاد للمرة الأولى عام 2009 بعد انتفاضة أطاحت بالرئيس آنذاك مارك رافالومانانا، وظل في السلطة حتى عام 2014، قبل أن يُعاد انتخابه في عامي 2018 و2023 في انتخابات شابتها اتهامات بالتزوير.
ومنذ استقلالها عام 1960، تشهد مدغشقر دورات متكررة من الاضطرابات السياسية والاحتجاجات الشعبية، التي تتجدد كلما تفاقمت الأزمات الاقتصادية وتراجعت الخدمات العامة.










