بين الأزمات والتحديات.. كيف أعاد مجلس حقوق الإنسان الأمل للضحايا حول العالم؟

في دورته الأخيرة بجنيف

بين الأزمات والتحديات.. كيف أعاد مجلس حقوق الإنسان الأمل للضحايا حول العالم؟
مجلس حقوق الإنسان في جنيف

في لحظة يتراجع فيها الالتزام الدولي بقيم العدالة وحقوق الإنسان، اختُتمت الدورة الأخيرة -الدورة الـ60- لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف بإشارات اعتبرها كثيرون نقطة ضوء في مشهد عالمي يزداد قتامة، فبينما تتصاعد النزاعات المسلحة وتُقمع الحريات المدنية في العديد من الدول، جاء عمل المجلس ليعيد التأكيد على أن حماية الإنسان تظل جوهر النظام الدولي مهما تراجعت الإرادات السياسية.

الدورة التي شهدت مشاركة واسعة من الدول والمنظمات غير الحكومية، حملت قرارات وصفتها "هيومن رايتس ووتش الحقوقية في نسختها الإنجليزية بـ"المنعطف الإيجابي"، بعد سنوات من الجمود والتباينات في المواقف داخل المجلس، الذي يمثل الهيئة الأممية الأعلى لمتابعة أوضاع حقوق الإنسان في العالم.

هيئة جديدة لأفغانستان

من أبرز إنجازات الدورة الـ60 لمجلس حقوق الإنسان، القرار التاريخي بإنشاء هيئة مستقلة لجمع الأدلة والتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان في أفغانستان، في استجابة لدعوات من منظمات أفغانية ودولية وخبراء تابعين للأمم المتحدة. 

القرار، الذي أُقرّ بالإجماع، يُعد خطوة مهمة نحو إرساء مساءلة حقيقية عن الجرائم الجسيمة التي شهدتها البلاد، خاصة ما يتعلق بقمع النساء والفتيات، وتقييد الحريات العامة منذ عودة حركة طالبان إلى الحكم.

هذا القرار وجّه رسالة واضحة إلى كل من تورط في انتهاكات منهجية بأن الإفلات من العقاب لن يكون قاعدة دائمة، وأن المجتمع الدولي يحتفظ بأدوات قانونية لمحاسبة المسؤولين، حتى في ظل الانقسام السياسي العالمي.

وقد رحبت منظمة هيومن رايتس ووتش بالقرار، مؤكدة أنه يعيد الاعتبار لضحايا العنف والتمييز، ويمثل خطوة أولى نحو العدالة الانتقالية التي تحتاج إليها أفغانستان منذ عقود.

تجديد آليات المراقبة

إلى جانب الملف الأفغاني، جدد مجلس حقوق الإنسان تفويضات الأمم المتحدة الخاصة بالرصد والتحقيق في عدد من بؤر الأزمات، منها روسيا وسريلانكا والسودان وكمبوديا، بما يضمن استمرار الرقابة الدولية المستقلة على تلك الحالات، وتكمن أهمية هذه الخطوة في الحفاظ على قنوات اتصال مفتوحة مع الضحايا في بيئات تُقمع فيها حرية التعبير وتُمنع فيها منظمات المجتمع المدني من العمل بحرية.

في السودان، حيث تتفاقم الحرب الأهلية منذ أكثر من عام ونصف العام، تم التأكيد على استمرار التحقيقات في انتهاكات حقوق الإنسان ضد المدنيين، بما في ذلك العنف الجنسي ضد النساء والفتيات، كما تم التشديد على توثيق الانتهاكات الممنهجة في روسيا ضد المعارضين والصحفيين، وضمان ألا تظل الجرائم المرتكبة في سريلانكا وكمبوديا طي النسيان.

منظمات حقوقية، بينها العفو الدولية والفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان، اعتبرت أن هذه الخطوات تمثل "درع حماية معنوي وإنساني" للمجتمعات التي تخوض معارك من أجل الحرية في مواجهة سلطات قمعية، وأنها تؤكد أن الأمم المتحدة لا تزال قادرة على ممارسة دورها الرقابي رغم التحديات.

خطوة إفريقية ضد العنصرية

من النقاط التي أثارت اهتماماً واسعاً اعتماد المجلس بالإجماع قراراً بشأن مكافحة العنصرية المنهجية والتعويض عن آثار الاستعباد والفظائع الاستعمارية، في خطوة وُصفت بأنها "انتصار رمزي وإنساني للقارة الإفريقية"، القرار، الذي قادته مجموعة الدول الإفريقية بدعم من دول من أمريكا اللاتينية، يُعد الأول من نوعه منذ عام 2019.

ورغم استمرار الخلافات حول آليات التعويض وإصلاح الأضرار التاريخية، فإن اعتماد القرار بالإجماع يعكس رغبة دولية في تجاوز إرث الاستعمار وإعادة النظر في مفاهيم العدالة العرقية.

 بيان غانا، الذي مثّل الموقف الإفريقي الموحد، أكد أن "العدالة لا تكتمل إلا بالاعتراف بالظلم التاريخي وإصلاح آثاره"، فيما رحبت منظمات مثل مبادرة العدالة العرقية التابعة للأمم المتحدة بالخطوة، داعية إلى ترجمتها إلى سياسات واقعية في مجالات التعليم والتوظيف والتمثيل السياسي.

حقوق اقتصادية وبيئية

لم تغب القضايا الاقتصادية والبيئية عن جدول أعمال مجلس حقوق الإنسان، فقد تم اعتماد قرارات تتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ومواجهة عدم المساواة، وتأثير تغير المناخ وارتفاع مستوى سطح البحر على المجتمعات الساحلية والدول الجزرية الصغيرة.

ورغم أن بعض هذه القرارات جاءت "غير مكتملة" من حيث القوة التنفيذية، فإنها تمثل توافقاً نادراً بين دول الشمال والجنوب على الاعتراف بأن التغير المناخي لم يعد مجرد قضية بيئية، بل تهديد مباشر للحق في الحياة والصحة والمأوى.

ووفقاً لتقرير برنامج الأمم المتحدة للبيئة الصادر في سبتمبر الماضي، فإن أكثر من 700 مليون شخص حول العالم يعيشون في مناطق مهددة بالفيضانات أو الجفاف المتكرر، وهو ما يجعل حماية البيئة ركناً أساسياً من منظومة حقوق الإنسان.

الضحايا يستعيدون أصواتهم

تعكس نتائج الدورة الأخيرة تحولاً في طريقة تعامل المجلس مع قضايا الحقوق، حيث بات التركيز لا يقتصر على الإدانة السياسية، بل على تمكين الضحايا والمجتمعات المحلية من المشاركة في توثيق الانتهاكات والمطالبة بالعدالة.

ويشير خبراء الأمم المتحدة إلى أن آليات التحقيق المستقلة التي أنشأها المجلس خلال السنوات الأخيرة أسهمت في جمع ملايين الوثائق التي يمكن أن تُستخدم مستقبلاً أمام المحاكم الوطنية والدولية.

المنظمات المدنية رأت في هذه الخطوات تعزيزاً للحماية الأساسية للإنسان، خاصة في ظل تراجع تمويل المؤسسات الحقوقية وتزايد القيود على عملها.

وتؤكد تقارير أممية أن أكثر من 80 دولة حول العالم شهدت خلال السنوات الخمس الماضية قيوداً متزايدة على حرية التعبير والتجمع، ما يجعل الدعم الأممي لحماية الحقوق أمراً حيوياً للحفاظ على المساحات المدنية.

تحديات بين السياسة والعدالة

ورغم الأجواء الإيجابية التي رافقت الدورة، فإن التحديات لا تزال كبيرة. فمجلس حقوق الإنسان، الذي يضم 47 دولة، يعمل وسط انقسامات سياسية حادة تعوق أحياناً صدور قرارات قوية ضد بعض الحكومات النافذة.

ويشير خبراء القانون الدولي إلى أن فاعلية المجلس تعتمد في النهاية على مدى التزام الدول الأعضاء بتنفيذ القرارات، وليس على صدورها فقط.

في هذا السياق، أعادت المفوضية السامية لحقوق الإنسان برئاسة فولكر تورك التأكيد على أن "الكرامة الإنسانية لا يمكن أن تكون رهينة التوازنات السياسية"، داعية الدول إلى التعامل مع قرارات المجلس بوصفها التزامات قانونية وأخلاقية تجاه شعوبها.

ردود الفعل الدولية

رحبت المفوضية الأوروبية والاتحاد الإفريقي بقرارات المجلس الأممي، معتبرين أنها تمثل تقدماً في مسار حماية الحريات، بينما دعت منظمة العفو الدولية إلى توسيع نطاق التحقيقات لتشمل دولاً أخرى تشهد أزمات إنسانية حادة مثل ميانمار وسوريا واليمن.

كما أثنت المنظمات الأممية على قدرة المجلس على تحقيق توافقات رغم الظروف الجيوسياسية المعقدة، معتبرة أن التكاتف بين الدول والمجتمع المدني يعيد الثقة بقدرة النظام الدولي على حماية الإنسان، حتى في زمن الانقسام.

تأسس مجلس حقوق الإنسان عام 2006 خلفاً للجنة حقوق الإنسان التي واجهت انتقادات بسبب ضعفها السياسي، ويمثل اليوم الهيئة الرئيسية التابعة للأمم المتحدة المسؤولة عن تعزيز واحترام حقوق الإنسان حول العالم، ويعقد المجلس ثلاث دورات رئيسية سنوياً في جنيف، ويملك صلاحيات لتشكيل لجان تحقيق وإصدار توصيات ملزمة أخلاقياً للدول.

منذ إنشائه، كان المجلس شاهداً على محطات مفصلية في تاريخ العدالة الدولية، أبرزها التحقيق في الانتهاكات بسوريا عام 2011، وتشكيل بعثات تقصي الحقائق في فلسطين وميانمار، وهو ما يجعله أحد أهم أدوات المجتمع الدولي لحماية الكرامة الإنسانية.

في عالم تتصاعد فيه الأصوات المنادية بالأمن على حساب الحرية، تذكّر قرارات مجلس حقوق الإنسان الأخيرة بأن الإنسان ما زال في صلب الاهتمام الأممي، وأن العدالة ليست ترفاً سياسياً بل ضرورة لبقاء الإنسانية نفسها، فحين تتكاتف الدول والمنظمات والمجتمعات المدنية لإعلاء صوت الضحايا، يمكن للنظام الدولي أن يستعيد جزءاً من روحه التي قامت على الإيمان بالمساواة والكرامة لكل البشر.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية