ظهور الحقيقة بعد أربعة عقود.. عدالة متأخرة تكشف أطول خطأ قضائي في بريطانيا

ظهور الحقيقة بعد أربعة عقود.. عدالة متأخرة تكشف أطول خطأ قضائي في بريطانيا
محكمة الاستئناف البريطانية

حين ظهر بيتر سوليفان عبر شاشة الاتصال من داخل سجن وايكفيلد شديد الحراسة، لم تكن ملامحه وحدها تحمل أثر السنين الطويلة خلف الجدران، بل كان صوته المرتجف شاهداً على رحلة معقدة من الألم والصبر امتدت ثمانية وثلاثين عاماً، في تلك اللحظة، أعلنت محكمة الاستئناف في بريطانيا إلغاء إدانته في جريمة قتل الشابة ديان سندال عام 1986، لتكشف أحد أكبر الأخطاء القضائية التي شهدتها البلاد في تاريخها الحديث.

كان سوليفان في الثلاثين من عمره عندما وُجهت إليه تهمة قتل ديان سندال، الشابة الطموحة التي كانت في طريقها إلى محطة وقود بعد تعطل سيارتها في بلدة بيبنغتون قرب ميرسيسايد، وبحسب صحيفة "إندبندنت" البريطانية عُثر على جثمانها بعد تعرضها لاعتداء وحشي، في حين غابت الأدلة العلمية الدقيقة بسبب الأمطار التي أتلفت العينات الحيوية، ورغم هشاشة الملف حينها، أُدين سوليفان بجريمة نفاها دائماً، ليبدأ أطول رحلة سجن لشخص أدين خطأً في بريطانيا وفقاً لما وصفته محاميته لاحقاً.

في عام 2024 عاد ملف القضية إلى الضوء بعد أن خضعت عينات محفوظة من مسرح الجريمة لتحليل حديث للحمض النووي، جاءت النتيجة حاسمة، إذ أكدت الأدلة أن البصمة الوراثية لا تعود إلى سوليفان، وبناءً على ذلك، رأت محكمة الاستئناف أن الإدانة لم تكن آمنة وقررت إلغاء الحكم بعد مراجعة قدّمتها لجنة مراجعة القضايا الجنائية. واعتبر القضاة أن الأدلة الجديدة تحسم الجدل بشكل كامل.

ارتياح ممزوج بالوجع

داخل قاعة المحكمة، تبادل أفراد أسرة سوليفان العناق في حين بقي هو خلف شاشة الاتصال، وفي بيان عبر محاميه، قال إنه لا يشعر بالغضب رغم سنوات عمره الضائعة، مؤكداً أن ما حدث كان ظلماً كبيراً لكنه لا ينسى حجم المأساة التي تعرضت لها الضحية، أما شقيقته كيم سميث فقالت إن عائلتهم فقدت بيتر لما يقرب من أربعة عقود، وأن النهاية ليست انتصاراً لأحد، فأسرة سندال فقدت ابنتها ولن تستعيدها.

أثارت القضية موجة واسعة من الجدل داخل الأوساط القانونية والسياسية، وطالبت النائبة العمالية كيم جونسون بفتح تحقيق مستقل، معتبرة أن ما جرى يكشف إخفاقات خطيرة ومنهجية في عمل منظومة العدالة، وداعية إلى إصلاح جذري للجنة مراجعة القضايا الجنائية، ومن جهته، وصف متحدث باسم داونينغ ستريت ما تعرض له سوليفان بأنه ظلم قضائي بالغ، مؤكداً أن الحكومة ستدرس الحكم بعناية لضمان حصول جميع الأطراف على ما يستحقونه من إجابات.

معركة التعويض 

ورغم القرار القضائي، فإن رحلة سوليفان لم تنتهِ بعد، فالقانون البريطاني يشترط على ضحايا الأحكام الخاطئة إثبات براءتهم بما لا يدع مجالاً للشك أمام وزارة العدل للحصول على تعويض حكومي، ويصل الحد الأقصى للتعويض إلى مليون جنيه، أي ما يقارب ستة وعشرين ألف جنيه عن كل سنة في السجن، ويؤكد محامون أن المعايير الصارمة تجعل حصول ضحايا الأحكام الخاطئة على التعويض أمراً بالغ الصعوبة، رغم تعديل بعض القواعد في عام 2023.

خلال جلسة الاستئناف، أشار محامي الدفاع جايسون بيتر إلى أن موكله كان يعاني من ضعف إدراكي واضح عند التحقيق معه، وأنه قدم إجابات غير منطقية نتيجة الضغط النفسي، مضيفاً أنه خضع للاستجواب دون وجود محامٍ أو مختص، الأمر الذي جعله عرضة للتأثير، وأعادت هذه التفاصيل فتح النقاش حول كيفية تعامل الشرطة مع الموقوفين ذوي الاحتياجات الذهنية أو النفسية في ثمانينيات القرن الماضي، وهي فترة لم تكن فيها المعايير الحالية للحماية قد تطورت بعد.

البحث عن الجاني الحقيقي

وأعلنت شرطة ميرسيسايد أنها أعادت فتح التحقيق، وقد استبعدت حتى الآن مئتين وستين شخصاً من دائرة الاشتباه، ومن جانبها لم تعارض النيابة العامة إلغاء الحكم، مؤكدة أن نتائج الحمض النووي تشير بوضوح إلى أن شخصاً آخر ارتكب الجريمة. ويشكل ذلك بداية مرحلة جديدة في البحث عن الحقيقة بعد أربعة عقود من الغموض.

نقطة تحول في تاريخ العدالة البريطانية

خارج المحكمة، وصفت محامية سوليفان سارة مايات القرار بأنه لحظة تاريخية، مؤكدة أن موكلها يعد أحد أطول ضحايا الظلم القضائي في بريطانيا، أما لجنة مراجعة القضايا الجنائية فأعلنت أسفها لأنها لم تكتشف الخطأ خلال مراجعتها الأولى للقضية عام 2008، وتعهدت بتحسين قدرتها على التعامل مع الأدلة الجنائية المتطورة.

وأشارت وزارة العدل إلى أنها ستدرس القضية بدقة لضمان عدم تكرار مثل هذا الخطأ، ويؤكد مراقبون أن هذه القضية ستكون نقطة محورية في دفع النظام القضائي نحو مراجعة أعمق لضمان حماية حقوق المتهمين ومنع الانهيارات المؤسسية التي قد تدمر حياة أبرياء لسنوات طويلة.

شهدت بريطانيا خلال العقود الماضية عدة قضايا هزت الثقة في نظام العدالة الجنائية، أبرزها قضايا أحكام خاطئة ضد متهمين في جرائم إرهابية خلال السبعينيات والثمانينيات، أدت تلك القضايا إلى إصلاحات واسعة شملت إنشاء لجنة مراجعة القضايا الجنائية عام 1997 بهدف تصحيح أخطاء القضاء، ورغم التطور الكبير في التقنيات الجنائية مثل تحاليل الحمض النووي، تظل الأخطاء واردة، خصوصاً عندما تعتمد الإدانة على اعترافات غير موثقة أو تحقيقات تمت دون وجود ضمانات قانونية كاملة.

 وتؤكد منظمات حقوقية أن النظام يحتاج إلى تحديثات مستمرة لمواكبة التطور العلمي وتحقيق توازن بين مكافحة الجريمة وحماية حقوق المتهمين، خاصة أولئك الذين يعانون من هشاشة صحية أو ذهنية تجعلهم أكثر عرضة للوقوع تحت الضغط أو الاعترافات القسرية.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية